محبة اولياء اللــه

الشيخ عبد الرزاق البدر

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علمًا ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أما بعد معاشر الكرام حجاج بيت الله الحرام : أهلًا ومرحبًا بكم في هذا اللقاء الذي نسأل الله عز وجل أن يجعله علينا أجمعين مباركًا ، وباب خيرٍ ونفعٍ وفائدة ، وأن يصلح لنا أجمعين شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يكتب لنا في حجِّنا حُسن التقرب إليه وحُسن العمل المدني منه ، وأن يهدينا إليه صراطا مستقيما . وجزى الله خير الجزاء وزارة الشؤون الإسلامية على جهودها المباركة وأعمالها الحثيثة في نفع حجاج بيت الله وإفادتهم في دينهم ، ونسأل الله عز وجل أن يبارك في هذه الجهود وأن يجعلها لوجهه خالصة ولعباده نافعة بمنِّه وكرمه .
معاشر الكرام : الحديث في هذا اللقاء عن موضوعٍ جدير بالعناية والاهتمام من كل مسلم ألا وهو : «محبة أولياء الله» ، وقد صح في الحديث عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ)) ، وصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)) ؛ وعليه فإن محبة أولياء الله جل في علاه هي أوثق عرى الإيمان ، وهي مما يُستكمل به الإيمان ، وهي من عظيم القُرَب التي يتقرَّب بها المسلم إلى الله عز وجل ، ومن الدعاء المأثور عن نبينا صلى الله عليه وسلم : «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبَّكَ» ، فإن قوله « وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ» هذا هو محبة أولياء الله.
ولهذا ينبغي علينا معاشر الكرام أن نتخذ محبة أولياء الله سبحانه وتعالى دينًا وقربة نتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى ؛ لِما لهم من عظيم المكانة ورفيع المنزلة ، ولما حباهم الله سبحانه وتعالى به من حسن التقرب إليه جل وعلا . وإذا كانت محبة أولياء الله جل وعلا دينًا وقربة فإن معاداتهم إثمًا وباب شر على المرء في دنياه وأخراه ، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) وهو في صحيح البخاري ، ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))؛ وهذا يدل على عظم خطورة معاداة أولياء الله سبحانه وتعالى .
ولهذا ينبغي على المسلم أن يعرف لهذا الموضوع قيمته ومكانته ومنزلته العلية ، وأن يَعُدَّ في جملة قرَبه إلى الله سبحانه وتعالى أن يتقرب إلى الله جل في علاه بمحبة أوليائه ومحبة أصفيائه سبحانه وتعالى ، وأن يحذر أشد الحذر من أن يكون في جملة عمله أو أعماله معاداة لأولياء الله ؛ فإن الأمر عظيم الخطر ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) ، ومن آذنه الله بالحرب هلك في دنياه وأخراه .
محبة أولياء الله سبحانه وتعالى قربة نتقرب بها إلى الله عز وجل ، نسأل الله جل في علاه أن يعمر قلوبنا بمحبة أوليائه ، وأن لا يجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ، وانظر في هذا الباب العظيم قول الله سبحانه وتعالى لما ذكر في سورة الحشر الصحب الكرام وأثنى عليهم الثناء العظيم قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} ، وهذا يستفاد منه أن المطلوب تجاه أولياء الله سبحانه وتعالى سلامة القلب وسلامة اللسان ؛ بأن لا يكون في القلب تجاههم غلٌّ أو حقدٌ أو حسدٌ أو ضغينة ، وأن لا يكون في اللسان تجاههم سبٌ أو شتمٌ أو لعنٌ أو وقيعة، بل الألسنة مصونة والقلوب نقية لا غل فيها ولا حقد ولا حسد ، هذا هو الواجب على عبد الله المؤمن تجاه أولياء الله سبحانه وتعالى .
ولهذا ينبغي أن يُعلم -معاشر الكرام- أن أهل السنة والجماعة أهل الحق أهل صراط الله المستقيم يعرفون لأولياء الله قدرهم ، ويرعون لهم مكانتهم ، ويحفظون لهم الحق الواجب تجاههم ، ويدركون أهمية هذا الأمر وعظم شأنه بلا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط ؛ وهذه ميزة أهل السنة وخاصيتهم ، فإن منهجهم في أمور الدين كلها منهج وسط وطريقهم قوام لا غلو ولا جفاء ، قد قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143] ، وخيار الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها . ولهذا أهل السنة فيما يتعلق بأولياء الله عز وجل وسط عدل ؛ لا يغلون فيهم ، ولا يرفعونهم فوق مكانتهم ، ولا يعطونهم من الخصائص والصفات ما ليس لهم ، وفي الوقت نفسه لا يجفون في حقهم ، ولا ينتقصون من مكانتهم ، بل هم وسطٌ في أولياء الله عز وجل كما أنهم وسط في أمور الدين كلها .
أيها الكرام : هذا الباب الشريف - محبة أولياء الله جل في علاه - يتطلَّب من المسلم أن يكون على معرفةٍ بصفات أولياء الله في ضوء كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا يلتبس عليه الطريق ، ولئلا تختلط عليه الأمور ، ولئلا يَعُد في أولياء الله من ليس منهم أو يجعل من هم من أولياء الله ليسو من أوليائه ، وهذا يقع من المرء إذا قلَّت بصيرته بكتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
ولهذا من المطالب المهمة في هذا الباب العظيم أن يعرف المسلم من هم أولياء الله ، وأن تكون هذه المعرفة في ضوء الكتاب والسنة ، وقد قال الله جل في علاه: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس:62] كأنه قيل من هم يا الله؟ من هم أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؟ قال جل وعلا: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس:63] هؤلاء أولياء الله ؛ أهل الإيمان والتقوى ، فـ «من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليا» ؛ فأولياء الله هم أهل الإيمان بالله وبكل ما أمر عباده سبحانه وتعالى بالإيمان به ، وهذا يعني صحة المعتقد وقوامه وسلامته ، { وَكَانُوا يَتَّقُونَ } أي يتقون الله ويتقون ما نهاهم الله عنه ويتقون ما يوجب سخط الله عليهم من تركٍ للمأمور أو فعلٍ للمحظور ، ولهذا فإن تقوى الله عز وجل: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله . فالولاية إيمان وتقوى ؛ إيمان بالله وبكل ما أمر جل وعلا عباده بالإيمان به ، وعمل بطاعة الله عز وجل وبُعد عما نهى عنه سبحانه وتعالى .
وفي الحديث القدسي المشار إلى أوله قريبًا المخرَّج في صحيح الإمام البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله تعالى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) كأنه قيل : من هم أولياؤك يا الله الذين من عاداهم آذنتَه بالحرب؟ فجاء الجواب في الحديث نفسه مبيِّنا من هم أولياؤه سبحانه وتعالى ، قال : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) أي أن الله سبحانه وتعالى يؤيده ويحفظه في سمعه وبصره ويده وحواسه بقربه إلى الله سبحانه وتعالى وحُسن تقربه إلى الله عز وجل .
وهذا الحديث فيه بيانٌ بيِّن لأولياء الله من هم وما صفتهم ؛ قال : ((مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) ؛ الولاية قرب إلى الله وتقرب إليه هذه حقيقتها ، وهي سميت ولاية من المحبة والقُرب ، ولهذا قال بعض أهل العلم في تسميتها بهذا الاسم : من الموالاة ؛ موالاة الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن العبد لا يزال في طاعة الله والتقرب إلى الله والمحافظة على واجبات الدين وفرائض الإسلام فيصبح بذلك من أولياء الله سبحانه وتعالى .
ولهذا قال العلماء أخذًا من هذا الحديث وغيره : إن من حافظ على فرائض الإسلام وواجبات الدين وتجنَّب المنهيات المحرمات عظائم الذنوب تجنَّبها وابتعد عنها فهو من أولياء الله . قد جاء في صحيح مسلم أن النعمان بن قوقل رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟» قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((نَعَمْ)) ، قَالَ رضي الله عنه: «وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا» .
فالذي يحافظ على الواجبات -واجبات الدين وفرائض الإسلام - ويتجنب الأمور التي حرمها الله ونهى عباده جل وعلا عنها فهو من أولياء الله سبحانه وتعالى ، وهذه رتبة في الولاية يسميها أهل العلم «رتبة المقتصدين» كما قال الله سبحانه وتعالى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }[فاطر:32] ، والمقتصد: هو الذي فعل الواجب وترك المحرم ، فالذي فعل ما أوجب الله عليه وترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه هذا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، لأنه آمن بالله واتقى الله وفعل الواجب وترك المحرم فهو من أولياء الله سبحانه وتعالى .
لكن هناك في الولاية رتبة أعلى من هذه الرتبة وأرفع ، والله يقول: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}[الأحقاف:19] ، هناك رتبة في الولاية أرفع من ذلك وجاء تبيانها في الحديث نفسه قال : ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)) ؛ هذه رتبة أعلى ، إذا فعل العبد الواجب وترك المحرم فهو من أولياء الله ، لكن هناك رتبة في الولاية أعلى من هذه وهي أن يعتني بعد عنايته بالفرائض وبُعده عن المحرمات بالرغائب والنوافل والمستحبات لتعلو درجاته عند الله سبحانه وتعالى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ -يعني المنازل العالية الرفيعة في الجنة- كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)) ، الجنة درجات ورتب ومنازل { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}[الأحقاف:19] ، كلما ازداد العبد تقربًا إلى الله عز وجل بالنوافل والرغائب والمستحبات علت منزلته عند الله ، وإذا حافظ على واجبات الدين فرائض الإسلام تجنب أيضًا الحرام كان بذلك من أولياء الله سبحانه وتعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إذًا أولياء الله جل وعلا على رتبتين : مقتصدون ، وسابقون بالخيرات ؛ والمقتصدون : من فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات ، والسابقون بالخيرات : من زادوا على ذلك فعل الرغائب والاجتهاد في النوافل والمستحبات .
فهذا حديث عظيم في التعريف بأولياء الله سبحانه وتعالى ، وأهل العلم يسمون هذا الحديث بـ«حديث الأولياء»، وبعض العلماء من أفرده بالشرح والبسط والبيان لأنه حديث عظيم في هذا الباب باب معرفة أولياء الله سبحانه وتعالى من هم .
وبهذا تعلم أيها المسلم الموفق أن الولاية والولي والأولياء ليست رسومًا مُفتعلة أو طقوسًا مدَّعاة أو زيًّا ولباسًا معيَّنًا أو نحو ذلك من المسالك والمسارات التي تُفعل زعمًا ممن يفعلها أن هذا طريق الولاية وبابها ، بل إنَّ من الناس من اتخذ هذا الباب -باب الولاية- طريقًا للتعالي على الناس وأكل أموالهم بالباطل ، وكم وكم حصلت من الانحرافات والعدول عن صراط الله المستقيم بسبب دعوى الولاية الزائفة والتعظيم للنفس وطلب المكانة وعلو المنزلة على الناس والتعظيم للنفس بينهم ؛ باسم الولاية .
ولهذا ينبغي أن يُعلم أن الولاية ليس شيئا يدَّعيه المرء لنفسه ، الولاية بين العبد وبين ربه ، الولاية جهاد بينك وبين الله تقربًا إلى الله طلبًا لما عند الله سبحانه وتعالى ، ولهذا أولياء الله الصادقون لا يقول القائل منهم عند الناس أنا ولي وأنا من أولياء الله ، لا يقول ذلك ولا يدَّعي ذلك لنفسه ، عبد الله بن أبي مُليكة من علماء التابعين يقول: «أدركتُ أكثر من ثلاثين صحابيًا كلهم يخاف النفاق على نفسه» ، ما يدَّعون الولاية مع علو مكانتهم ورفيع منزلتهم وعلو رتبتهم ، عبد الله بن عمر رضي الله عنه الصحابي الجليل يقول : «لو أعلم أنه تُقُبِّلت مني سجدة واحدة خير لي من الدنيا وما فيها» ، ما يدَّعون لأنفسهم الدعاوى العريضة وأنا كذا وأنا كذا ، ما يدَّعي لنفسه ، ولهذا يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : «إن المؤمن جمع لنفسه بين الإحسان والمخافة ، والمنافق جمع لنفسه بين الإساءة والأمن » ، المؤمن يحسن ويخاف ، انظر إلى صفة المؤمنين الكمَّل في سورة المؤمنون ، قال الله جل وعلا : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} جاء في مسند الإمام أحمد أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت : سألتُ النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية قلت : «يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعذَّب؟» هل هذا هو معنى الآية؟ قال : ((لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ؛ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ)) ،{ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي يقدِّمون ما يقدمون من طاعات وقربات وهم يرجون الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها منهم ، لا يدَّعون أنها متقبَّلة .
ولهذا مضت سنة المسلمين من زمن الصحابة إلى يومنا هذا عقب فريضة الصيام وعقب فريضة الحج في عيد الفطر وعيد الأضحى إذا لقي بعضهم بعضًا ماذا يقولون؟ «تقبَّل الله منَّا ومنكم» ، كل واحد منهم يدعو للآخر بالقبول ، هذه سنة ماضية من زمن الصحابة ، الصحابة كانوا إذا لقي بعضهم بعضا يوم العيد قال الواحد منهم لأخيه «تقبَّل الله منَّا ومنكم» ، يسألون الله القبول ، ما منهم من يدَّعي أن أعماله متقبلة ، لا يزكي الإنسان نفسه مهما اجتهد في العمل ومهما اجتهد في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، ولهذا قال الله جل في علاه: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم:32]  . 
ولهذا الولي الصادق ما يدَّعي الولاية لنفسه ، ما يعظِّم نفسه ، لا يقول عن نفسه أنا كذا وأنا كذا ، بل لا يزال مجاهدًا نفسه على الأعمال الصالحة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وهو لا يزال يرى نفسه مقصرا ، لا يزال يرى نفسه مفرطا ، لا يزال يبكي على تقصيره وتفريطه مع إحسانه في العمل وإحسانه في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، بخلاف من يدَّعي الولاية مجرد دعوى ، تجد أنه جمع لنفسه بين أمرين: إساءة في العمل وتفريط وتقصير فيه ، وفي الوقت نفسه ادعاء لنفسه بالكمال والتمام والرفعة .
الولي الصادق إذا قيل له أنت من أولياء الله يغضب يقول: "من أنا!" ، والولي الذي يدَّعى ذلك ادعاءً إذا قيل أنت من أولياء الله يقول : " لا أنا أكبر من هذا وأعظم ، والأولياء مراتب وأنا رتبتي كذا" ، ولهذا عندهم في الولاية مسميات كلها مفتعلة لا أصل لها في دين الله ؛ الغوث والقطب وكذا ، أشياء كثيرة مفتعلة كلها لا أصل لها في دين الله ، درجات مزعومة ودعاوة فجة لا أصل لها في دين الله سبحانه وتعالى ، رتب مدعاة ومنازل مدعاة وأشياء مفتعلة .
ولهذا ينبغي للمسلم أن يميز في هذا الباب ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه كتب كتابًا أحسن فيه وأجاد أسماه : «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ، لأن المسلم ينبغي أن يميز وأن يكون عنده فرقان حتى لا يختلط عليه الأمر حتى لا يشتبه عليه ، بعض الناس تشتبه عليه الأمور ويظن الولاية في من هو ليس هو من أولياء الله ، بعضهم تجده مضيع للصلاة أصلا ولا يحافظ عليها ولا يُرى في المساجد ولا يعتني بواجبات الدين ، وهو عند من هو معظم عندهم من الأولياء ، وربما قالوا إن هذا وصل إلى رتبة سقطت عنه التكاليف وسقطت عنه الواجبات فلا يشهد صلاة ولا يتورع عن محرم ، ولا يزالون أتباعه يعتقدون فيه أنه من أولياء الله .
ولهذا يحتاج المسلم فعلًا أن يميز في هذا الباب وأن لا ينخدع ، الولاية ليست تعرف بخوارق العادات ، حتى وإن رأيت شخصًا يطير في الهواء أو يمشي في الماء أو يفعل ما شاء هذه ليست العلامة ، «من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليا» ، علامة الولاية: المحافظة على طاعة الله ، ومجاهدة النفس على التقرب إلى الله ، والبعد عن تزكية النفس وتفخيمها وتعظيمها والتعالي على الناس بالدعاوى الفجة العريضة التي لا خطام لها ولا زمام .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كلمة مفيدة في هذا الباب لننتبه لها : «فإن اشتبه عليك - أمر الولي- فاكشفه في ثلاثة مواطن »؛ إذا اشتبه عليك أمر الولي هل هو من أهلها أو من المدَّعين لها فاعرفه في ثلاثة أمور :
«في صلاته» ؛ هذا الأمر الأول ، هل هو من أهل المسجد ؟ هل هو من المحافظين على الصلاة؟ من المعظمين لها المعتنين بها المواظبين عليها المؤدين لها جماعةً؟ { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ }[النور:36-37] ، فهذا مقياس وهو محك وميزان يومي ، فإذا كان الشخص محافظا على هذه الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة يؤديها في بيوت الله معظمًا لها هذا من أمارات الخير وعلاماته ودلائله وشواهده وبراهينه ، إما إذا كان مفرطًا متهاونًا مضيعًا ينام عنها يكسل تشغله الشواغل وتصرفه الصوارف عنها هذا ليس من علامات الخير ولا من دلائله . قال تعرفه أولا في صلاته .
الأمر الثاني قال رحمه الله : «ومحبته للسنَّة وأهلها ونفرته عنهم» ؛ إذا كان نافرًا من السنة ونافرًا من أهلها مبغضًا لهم كارهًا معاديًا هذا ليس من علامات الولاية ، وإذا كان يحب السنة ويعظم السنة ويحب أهل السنة المحافظين على السنة فهذا من علامات الخير ودلائله . والسنة ليست مجرد دعوى أو مؤتمر يُعقد من هم أهل السنة ويُقرر ، السنة حقيقتها وحقيقة صاحبها : من يعمل بالسنة ويواظب عليها ، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله : «أهل السنة سُموا أهل سنة لأنهم مظاهر ظهرت عليهم السنة» ؛ من ظهرت عليه السنة فهو من أهلها عقيدةً وعبادةً وسلوكا ، ومن لم تظهر عليه السنة لا في عقيدته إن نظرت عقيدته فعقيدة أهل الكلام ، وإن نظرت إلى طريقته فطرق الخرافة والضلال ، وإن نظرت إلى أعماله وإذا بها فيها ما فيها ، وإن ادَّعى أنه من أهل السنة لا يكون من أهلها بمجرد دعواه ، وكم من إنسان يدَّعي ودعواه ليست في محلها ، «والدعاوى ما لم يقم عليها بينات فأهلها أدعياء» . فأهل السنة من يعظمون السنة ويقيمون السنة ويحكِّمون السنة ويعملون بها عقيدة وعبادة وسلوكا، أما الذي إن سئل عن عقيدته فإذا به عقيدة أهل الكلام ، وإن سئل عن مسلكه وإذا به مسالك منحرفة ليست على صراط الله المستقيم من الطرق الضالة المنحرفة ، فأين وأنى له أن يكون مع ذلك من أهل السنة وهو لم تظهر عليه السنة !! فالسنة ليست مجرد دعوى ، السنة مجاهدة للنفس على التعظيم للسنة والعمل بها ، ولهذا يُعرف الشخص كما يقول ابن القيم رحمه الله بمحبته للسنة ومحبته لأهلها ، أما إذا كان نافرا من السنة ونافرًا من أهلها هذا ليس من علامات الخير ولا من دلائل الخير وإن ادَّعى لنفسه ما ادعى .
الأمر الثالث فيما ذكر رحمه الله تعالى قال: «ودعوته إلى الله ورسله وتجريد التوحيد والمتابعة» ؛ ولهذا أولياء الله حقا لا يدعو الواحد منهم لنفسه ولا يطلب شيئا لنفسه ليعظَّم أو يفخم أو غير ذلك ، وإنما يدعو لدين الله، يقول الشافعي رحمه الله «ودِدتُ لو أن الناس دخلوا في دين الله أفواجا ولو قرِّض جسمي بالمقاريض» ، لا يطلب شيء لنفسه ولا يريد شيء لنفسه وإنما يريد علوًا لدين الله ، هداية الناس إلى دين الله وتعريفهم بدين الله ، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}[يوسف:108] ، ولهذا أولياء الله دعاة إلى الله لا إلى أنفسهم ، إذا كان الشخص يعقد تنظيمًا يطلب أصواتًا لنفسه ويطلب مؤيدين ويطلب مصوِّتين ويطلب أتباعًا له ويطلب أشياء من هذا القبيل هذا يدعو لنفسه ، أما أولياء الله دعاة إلى الله ودعاة إلى دين الله ، لا يدعون إلى أنفسهم ولا يطلبون شيئا لأنفسهم وإنما هم دعاة إلى الله ودعاة إلى دينه جل في علاه كما قال الله سبحانه وتعالى :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنََا وَمَنِ اتَّبَعَني }[يوسف:108] .
من لا يتنبه لهذا الطريق يدخل في متاهات ويدخل في طرق تُبعده عن الولاية بُعدًا شديدا . حدثني أحد الأشخاص ممن هداه الله سبحانه وتعالى ؛ كان في أول أمره على طريقةٍ ما مرتبطًا بشيخٍ ما يملي عليه إملاءات في أعماله ، وأوهمه ذلك الشيخ المعظم عنده أن وصوله إلى الله إنما يكون من طريق هذا الشيخ ، حتى إنه يقول قال لي : "إذا أردت أن تذكر الله فاستحضر شخصي في نفسك ، لأن لي مكانة عند الله ولا يصل ذكرك إلى الله إلا من طريقي" ، يقول احتجت إلى أن أسافر -هو يحدثني بنفسه- قال احتجت أن أسافر إلى منطقة بعيدة عن المكان الذي في الشيخ فحملت همًّا كيف يكون الذكر وكيف يكون عبادة ، فأتيت الشيخ قلت له أنا الآن سأسافر، قال لا عليك يقول وأعطاني صورة له قال هذه تأخذها معك في أي مكان وتكون معك وتستحضر شخصي وأنت تذكر الله وتتقرب إلى الله ، لا تنال الولاية إلا بذلك .
كم يضحكون على الناس وكم يورطون العوام وكم يُدخلونهم في متاهات ، بل والله أُدخل بعض العوام في الشرك بالله والتعلق بغير الله سبحانه وتعالى حتى أصبحت الولاية اتخاذًا للأنداد والشركاء مع الله سبحانه وتعالى بأن يعظم الولي المزعوم تعظيمًا لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى ، ولهذا عُبد بعضهم من دون الله باسم الولاية ، وأصبح تُصرف له من الخصائص والحقوق ما ليس إلا لله سبحانه وتعالى ، وهذا أمر يعرفه كثير من الناس في كثير من المناطق ، دخلت على الناس دواخل ومصائب وعظائم باسم الولاية باسم التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، فأصبح بعض الناس لا همَّ له إلا من خلال الولاية أن يكون معظمًا في النفوس له مكانة يأكل من خلال الولاية أموال الناس بالباطل ، ويطلب من خلال الولاية التعظيم في النفوس ، إلى غير ذلك من المعاني . ولهذا هؤلاء الأدعياء للولاية هم من أبعد ما يكون عن هذه المعاني التي جاءت في نصوص الكتاب والسنة في بيان حقيقة أولياء الله ومن هم أولياء الله سبحانه وتعالى .
ولهذا ينبغي على المسلم أن يكون محبًا لأولياء الله ، عارفا بقدر أولياء الله سبحانه وتعالى ، وأن يكون في الوقت نفسه مفرقًا بين الأولياء والأدعياء حتى لا يقع في المتاهات ولا يقع في المنزلقات التي وقع فيها أقوام وأقوام باسم الولاية ، وهذا باب خطير جدا ، حتى إن أهل تلك المسالك يدَّعون في حق من لا يسلك مسلكهم في التعامل مع أولياء الله أنه لا يحب الأولياء ، لأنه أصبحت المحبة للأولياء مسلكًا ارتضوه لأنفسهم مخالفًا لدين الله سبحانه وتعالى بعيدًا كل البعد عن دين الله سبحانه وتعالى ، ولهذا يعتبر هذا الباب باب خطير لابد أن ينتبه له المسلم وأن يكون مضبوطًا بضابط الكتاب والسنة حتى لا يقع الانحراف ، ولأجل ذا كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الكتاب الذي أشرت إليه «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ، وذكر العلامات لهؤلاء والعلامات لهؤلاء ، بم يُعرف أوصاف هؤلاء وبم يُعرف أوصاف هؤلاء ، حتى يكون المسلم على بصيرة وأيضا حتى لا ينزلق في هذا الباب المنزلق الذي لا يحمد عاقبته لا في دنياه ولا في أخراه .
أيها المسلم الكريم : وقد سمعت قول الله جل في علاه في هذا الحديث القدسي : ((مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ متى بعد الفرائض وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)) ؛ أوصيك وصيةً ونصيحة محب مشفق في هذه الأيام المباركة ، اتخذها فرصة لنفسك ومناسبة كريمة لشخصك وقد أكرمك الله سبحانه وتعالى بالمجيء لحج بيته الحرام ، اتخذها فرصة جاهد نفسك على التوبة إلى الله وحسن الإنابة إلى الله لتخرج من الحج وأنت من أولياء الله ، فرصة لك ، والله إنها لفرصة ثمينة.
واذكر في هذا المقام قول نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في صحيح مسلم حديث عائشة رضي الله عنها ، قال عليه الصلاة والسلام : ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو -سبحانه وتعالى- ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)) انظر هذه الفضائل الأربعة العظيمة التي جمعها لك ، وتأمل من خلالها كيف أن يوم عرفة يعدُّ بابًا عظيمًا إن وفقك الله لتصبح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ممن عتقت رقابهم من النار ، ممن أجيبت دعوتهم ، أقيلت عثرتهم ، غُفرت زلتهم ، تقبل الله سبحانه وتعالى توبتهم وجعلهم في عداد عباده وأوليائه سبحانه وتعالى .
فهي فرصة عظيمة لك أن تنتهز فرصة حجك ووقوفك بين يدي الله سبحانه وتعالى في أرض عرفات لترتقي إلى هذا المرتقى المبارك وإلى هذه المنزلة العظيمة ؛ تسأل ربك سبحانه وتعالى من فضله العظيم ، لله عز وجل عتقاء يوم عرفة من النار بعدد لا يحصيه إلا الله ؛ اجتهد أن تكون من هؤلاء ، اجتهد أن تكون ممن تُعتق رقابهم غدا من النار ، وأحسن ظنك بربك ، وسله جل وعلا صادقًا من قلبك ، وألح عليه في الدعاء وأنت على ذكرٍ أنه جل في علاه لا يخيب من دعاه ولا يرد من ناداه ، اصدق معه في الدعاء وألح عليه بالسؤال ، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام : ((يقول الله : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)) أي فإني معطيهم ما سألوا مهما عظمت المسألة ، لأن الله لا يتعاظمه شيء يُسأله { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82] ، عطاؤه كلام ومنعه كلام سبحانه وتعالى ، فسله من فضله العظيم ، سله مغفرة ذنبك ، سله أن يتجاوز عن سيئاتك ، سله أن يرفع درجتك ، أن يجعلك من عتقائه من النار ، ألح عليه سبحانه وتعالى بالدعاء . كم هي غنيمة عظيمة أن يكون خروجك من حجك كيوم ولدتك أمك لا ذنب ولا خطيئة كما قال عليه الصلاة والسلام : ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) ، إذا رجعت من حجك كيوم ولدتك أمك فأنت من أولياء الله ، صرت من الأولياء .
لكن انتبه في هذا المقام ؛ مهما اجتهد العبد في العمل وحافظ على الطاعة وجاهد النفس على التكميل لها والإخلاص لا يزكي نفسه ولا يزكي عمله ، بل يقدِّم ما يقدِّم وهو يرجو ربه سبحانه وتعالى ، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا }[البقرة:127] ، خليل الرحمن ويبني بيت الرحمن وبأمر الرحمن وهو يدعو الله { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا }، نقل ابن كثير رحمه الله عن أحد السلف وهو وهيب بن الورد قرأ هذه الآية وبكى قال : «خليل الرحمن ، ويبني بيت الرحمن ، بأمر الرحمن ، ويخاف ألا يتقبل منه !!» . ولهذا المسلم يقدِّم ما يقدم وهو لا يجزم بأن عمله متقبل بل يقدم أعماله ويجاهد نفسه على تكميلها وتتميمها وهو يسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله من المقبولين ، أن يجعله في عداد عباده المقبولين ولا يزكي نفسه .
وليحذر في هذا المقام من أمرٍ ابتُلي به كثير من الناس في هذا الزمان ولاسيما عشية عرفة ؛ حيث إن كثيرًا من الناس ينشغل يوم عرفة بالذهاب هنا وهناك والحديث مع هذا وذاك ولا همَّ له في تنقلاته إلا التقاط الصور لنفسه، ثم كثير منهم يرسلها حالًا ، يلتقطها ويرسلها عبر وسائل الاتصال لمعارفه وأصدقائه ، حتى إنك ترى بعض الناس في عرفات وعند الجمرات وعند بيت الله الحرام يقف ويهيئ نفسه ويرتب ملابسه ويمد يديه ثم تلتقط له الصورة وإذا التقطت خفض يديه ثم يرسلها إلى الناس ؛ هذا هو الرياء ، والمرائي يقال له يوم القيامة : «اذهب إلى من راءيت بعملك فالتمس منه أجرا» ، يقول الله تعالى ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)) ، ما يقبل الله سبحانه وتعالى العمل الذي يُخلط ويكون لغيره فيه نصيب ، من شرط قبول العمل أن يكون خالصًا لله، ولهذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لما وصل إلى الميقات وأهلًّ بالحج : ((اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ)) أي خالصًا لوجهك . ولهذا يجاهد الحاج نفسه على إخلاص عمله لربه سبحانه وتعالى ، يجاهد نفسه على المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام ، ويرجو ربه سبحانه وتعالى القبول عملًا بقوله جل في علاه {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة:196] أي مخلصين .
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم بـأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا أجمعين من أوليائه المقربين ، أسأل الله عز وجل بـأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأن له الحمد لا إله إلا هو وحده لا شريك له المنَّان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم أن يجعلنا أجمعين من أوليائه المقربين ، اللهم اجعلنا من أوليائك المقربين ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر . اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم . اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علِمنا منه وما لم نعلم ، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علِمنا منه وما لم نعلم . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل ، وأن تجعل كل قضاءٍ قضيته لنا خيرا . اللهم أعذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، وأعذنا من شر الشيطان وشركه ، وأعذنا من شر كل دابةٍ أنت آخذ بناصيتها ، اللهم واهدنا أجمعين إليك صراطًا مستقيما . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه.

ليست هناك تعليقات:

';