ذَاتُ النِّطَاقَينِ
«عُمِّرَت أَسمَاءُ مِائَةَ عَامٍ وَلَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ وَلَا ضِرْسٌ، وَلَمْ يَغِبْ مِنْ عَقْلِهَا شَيءٌ» [صحابيَّتنا هذه جمعت المجد من أطرافه كلِّها ...فأبوها صحابيٌّ، وجدها صحابيٌّ، وأختها صحابيَّةٌ، وزوجها صحابيٌّ، وابنها صحابيٌّ .وحسبُها بذلك شرفًا وفخرًا .أما أبوها فالصِّدِّيق خليل الرَّسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وخليفته من بعد مماته .وأما جدُّها فأبو عتيقٍ والد أبي بكرٍ ..وأمَّا أختها فأمُّ المؤمنين عائشة الطَّاهرة المبرَّأة .وأمَّا زوجها فحواريُّ (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزُّبير بن العوَّام .وأمَّا ابنها فعبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنه - وعنهم أجمعين .إنَّها- بإيجاز- أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق .وكفى .
كانت أسماء من السَّابقات إلى الإسلام، إذ لم يتقدم عليها في هذا الفضل العظيم غير سبعة عشر إنسانًا من رجلٍ أو امرأةٍ.
وقد لقِّبت بذات النِّطاقين لأنَّها صنعت للرَّسول صلوات الله عليه ولأبيها يوم هاجرا إلى المدينة زادًا، وأعدت لهما سقاءً فلمَّا لم تجد ما تربطهما به شقَّت نطاقها شقَّين، فربطت بأحدهما المزود وبالثَّاني السِّقاء .فدعا لها النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام أن يبدلها الله منهما نطاقين في الجنَّة .فلقبت لذلك بذات النِّطاقين.
تزوج بها الزُّبير بن العوام، وكان شابًا مرملًا (فقيرا) ليس له خادمٌ ينهض بخدمته، أو مالٌ يوسِّع به على عياله غير فرس اقتناها.فكانت له نعم الزَّوجة الصالحة، تخدمه وتسوس فرسه وترعاه وتطحن النَّوى لعلفه، حتَّى فتح الله عليه فغدا من أغنى أغنياء الصحابة.
ولما أتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فرارًا بدينها إلى الله ورسوله كانت قد أتمَّت حملها بابنها عبد الله بنالزُّبير فلم يمنعها ذلك من تحمل مشاقِّ الرِّحلة الطَّويلة، فما إن بلغت «قُباء» حتَّى وضعت ... وليدها .فكبَّر المسلمون وهلَّلوا، لأنه كان أوَّل مولود يولد للمهاجرين في المدينة.
فحملته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعته في حجره، فأخذ شيئًا من ريقه وجعله في فم الصَّبيِّ، ثمَّ حنَّكه ودعا له .فكان أوَّل ما دخل في جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم
وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكرٍ من خصائل الخير وشمائل النُّبل، ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلاَّ للقليل النَّادر من الرِّجال.فقد كانت من الجود بحيث يضرب بجودها المثل.حدَّث ابنها عبد الله قال:
ما رأيت امرأتين قط أجود من خالتي عائشة وأمِّي أسماء، لكنَّ جودهما مختلفٌ ...وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكرٍ من خصائل الخير وشمائل النُّبل، ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلاَّ للقليل النَّادر من الرِّجال.فقد كانت من الجود بحيث يضرب بجودها المثل.حدَّث ابنها عبد الله قال:
أمَّا خالتي فكانت تجمع الشَّيء إلى الشَّيء حتَّى إذا اجتمع عندها ما يكفي؛ قسمته بين ذوي الحاجات .وأمَّا أمِّي فكانت لا تمسك (1) شيئًا إلى الغد .وكانت أسماء إلى ذلك عاقلة تحسن التَّصرف في المواقف ... الحرجة .من ذلك أنَّه لمَّا خرج الصِّدِّيق مهاجرًا بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل معه ماله كلَّه، ومقداره ستَّة آلاف درهمٍ، ولم يترك لعياله شيئًا .فلمَّا علم والده أبو قحافه برحيله - وكان ما يزال مشركًا - جاء إلى بيته وقال لأسماء:والله إني لأراه قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه ...
فقالت له:
كلاَّ يا أبت إنَّه قد ترك لنا مالاً كثيرًا.
ثمَّ أخذت حصى ووضعته في الكوَّة (نافذة صغيرة.)، التي كانوا يضعون فيها المال، وألقت عليه ثوباً، ثمَّ أخذت بيد جدِّها- وكان مكفوف البصر- وقالت:يا أبت، انظر كم ترك لنا من المال.
فوضع يده عليه وقال:لا بأس . إذا ترك لكم هذا كلَّه فقد أحسن.
وقد أرادت بذلك أن تسكِّن نفس الشَّيخ، وألاَّ تجعله يبذل لها شيئًا من ماله ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشركٍ عليها يدًا (الصنيعة والمنة والمعروف) حتَّى لو كان جدَّها
وإذا نسي التَّاريخ لأسماء بنت أبي بكرٍ مواقفها كلَّها، فإنَّه لن ينسى لها رجاحة عقلها، وشدَّة حزمها، وقوَّة إيمانها وهي تلقى والدها عبد الله اللِّقاء الأخير.
وذلك أنَّ ابنها عبد الله بن الزُّبير بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، ودانت له الحجاز، ومصر، والعراق، وخراسان، وأكثر بلاد الشَّام.
لكنَّ بني «أميَّة» ما لبثوا أن سيَّروا لحربه جيشاً لجباً (جرار) بقيادة «الحجاج بن يوسف الثَّقفيِّ»
فدارت بين الفريقين معارك طاحنةٌ أظهر فيها ابن الزُّبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كميٍّ (3) مثله.غير أنَّ أنصاره جعلوا ينفضُّون (يتفرقون) عنه شيئًا فشيئًا؛فلجأ إلى بيت الله الحرام، واحتمى هو ومن معه في حِمى الكعبة المعظَّمة .وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمِّه أسماء - وكانت عجوزًا فانيةً قد كفَّ بصرها - فقال:
السَّلام عليك يا أمَّه ورحمة الله وبركاته.
فقالت: وعليك السَّلام يا عبد الله .ما الذي أقدمك في هذه السَّاعة، والصخور التي تقذفها منجنيقات الحجَّاج على جنودك في الحرم تهزُّ دور مكَّة هزًا؟!.
قال: جئت لأستشيرك.
قالت: تستشيرني!! ... في ماذا؟!.
قال: لقد خذلني النَّاس وانحازوا عنِّي رهبةً من الحجَّاج أو رغبةً بما عنده حتَّى أولادي وأهلي انفضُّوا ( تفرقوا) عنِّي، ولم يبق معي إلاَّ نفر قليلٌ من رجالي، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلاَّ ساعةً أو ساعتين .ورسل بني «أميَّة» يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدُّنيا إذا ألقيت السِّلاح وبايعت عبد الملك ابن مروان، فما ترين؟.
فعلا صوتها وقالت:
الشَّأن شأنك يا عبد الله، وأنت أعلم بنفسك ...
فإن كنت تعتقد أنَّك على حقٍّ، وتدعو إلى حقٍّ، فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك .وإن كنت إنَّما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت .أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك.
قال: ولكنِّي مقتول اليوم لا محالة.قالت: ذلك خيرٌ لك من أن تسلم نفسك للحجَّاج مختارًا، فيلعب برأسك غلمان بني «أميَّة».
قال:
لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثِّلوا بي.
قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء، فالشَّاة المذبوحة لا يؤلمها السَّلخ ...
فأشرقت أسارير ( محاسن وجهه.) وجهه وقال:
بوركت من أمٍّ، وبوركت مناقبك الجليلة؛ فأنا ما جئت إليك في هذه السَّاعة إلاَّ لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم أنَّني ما وهنت ولا ضعفت، وهو الشَّهيد عليَّ أنَّني ما قمت بما قمت به حبًا بالدنيا وزينتها، وإنما غضباً لله أن تستباح محارمه .قالت: إنما أحزن عليك لو قتلت في باطل.
قال: كوني على ثقةٍ بأنَّ ابنك لم يتعمَّد إتيان منكرٍ قطُّ، ولا عمل بفاحشةٍ قطُّ، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمَّد ظلم مسلمٍ ولا معاهدٍ (الذميُّ.)، ولم يكن شيء عنده آثر ( أفضل.) من رضي الله عز وجلَّ ...
لا أقول ذلك تزكيةً لنفسي، فالله أعلم منِّي بي، وإنَّما قلته لأدخل العزاء علي قلبك.
فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحبُّ وأحبُّ ...
اقترب منِّي يا بنيَّ لأتشمَّم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك.
فأكبَّ عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما ( يملؤهما تقبيلاً) لثماً، وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه تتشمَّمُه وتُقبِّلُه...
وهأنذا ماض إلى ما تحبيِّن، فإذا أنا قتلت فلا تحزني عليَّ وسلِّمي أمرك لله .أطلقت يديها تتلمَّس جسده، ثمَّ ما لبثت أن ردَّتهما عنه وهي تقول:
ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله؟!.
قال: درعي.
قالت: ما هذا يا بنيَّ لباس من يريد الشَّهادة.
قال: إنَّما لبستها لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك.
قالت:
انزعها عنك، فذلك أشدُّ لحميتك ( أقوي لنخوتك وشجاعتك.) وأقوي لوثبتك، وأخفُّ لحركتك ...
ولكن البس بدلًا منها سراويل مضاعفةً، حتَّى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك.نزع عبد الله بن الزُّبير درعه، وشدَّ عليه سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول:
لا تفتري عن الدُّعاء لي يا أمَّه.
فرفعت كفَّيها إلى السَّماء وهي تقول:
اللَّهمَّ ارحم طول قيامه وشدَّة نحيبه في سواد اللَّيل والنَّاس نيامٌ ...اللَّهمَّ ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكَّة وهو صائمٌ ...اللَّهمَّ ارحم برَّه بأبيه وأمَّه ...اللَّهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك، ورضيت بما قضيت له، فأثبني عليه ثواب الصَّابرين ...لم تغرب شمسُ ذلك اليوم إلاَّ كان عبد الله بن الزُّبير قد لحق بجوار ربِّه.ولم يمض على مصرعه غير بضعة عشر يومًاإلاَّ كانت أمُّه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به ...
وقد بلغت من العمر مائة عام، ولم يسقط لها سنٌّ ولا ضرسٌ ولم يغب من عقلها شيءٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق