لَا عِزَّةَ إِلَّا بِالإِسْلَامِ الشيخ عز الدين رمضاني

إنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ كثيرًا من الأخلاق الكريمة والسَّجايا النَّبيلة قد زالت عن واقع المسلمين اليوم، وأصبح وجودُها نادِرًا في تَعامُلِهم إلاَّ بقايا ممَّن أَخلَصَهُمُ اللهُ لهدايته، واصطفاهم بتوفيقه ليتمسَّكوا بها في عصر غربةٍ وجهلٍ وتخاذُلٍ، وذلك بسبب إعراض الكثير ممَّن يُحسَبُون على الإسلام عن صراط ربِّهم وهَدْيِ نبيِّهم ﷺ، ورضوخهم واستسلامهم لتقاليد الكفَّار وعاداتهم وسلوكاتهم مع أنَّ الله جلَّ وعلا يقول: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[الأنعام:153].
ولعلَّ من أجَلِّ هذه الأخلاقِ الَّتي تَخلَّى عنها أكثرُ المسلمين وزهدوا فيها؛ خلقَ العزَّةِ، تلك الكلمة الَّتي تَرمُز إلى معاني القوَّة والشِّدَّة ونفاسة القدر، يقال في كلام العرب: عزَّ فلان، إذا برئ وسلم من الذُّلِّ والهوان، وقد تُعبِّر عن الامتناع والتَّرفُّع والغلبة، فيقال: عَزَّنِي فلان، أي: غلبني، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب}[ص:23]، وعليه فالعزَّةُ من خلال هذه المعاني يمكن أن تُعَرَّف بأنها  «حالةٌ مانعةٌ للإنسان من أن يُغلَب»(1)، سواءٌ كانت غلبةً حسِّيَّةً أو معنويَّةً.
ومن أوصاف الله تعالى العزَّةُ، ومن أسمائه العزيز، أي: الغالبُ القويُّ، وهو سبحانه المُعِزُّ الَّذي له جميعُ معاني العزَّةِ كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا}[يونس:64]، فله عزَّةُ القوَّة وعزَّةُ الامتناع؛ لأنَّه غَنيٌّ بذاته لا يحتاج إلى أحدٍ، وعزَّةُ القهر والغلبة لجميع الكائنات، وقد تكرَّرَ وصفُ الله بوصف العزَّة ما يُقارِبُ المئة مرَّةٍ.
وقد ذكر اللهُ في كتابه أنَّ العزَّةَ خُلُقٌ من أخلاق المؤمنين، كما هي خُلُقٌ لرسوله ﷺ ووصفٌ له عز وجل فقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون}[المنافقون:8] فالعزَّة والإيمان صنوان لا يفترقان، فمتى وقر الإيمان في قلب المسلم واختلط بشغاف قلبه تشَرَّبَ العزَّةَ مباشرةً، وحينها تصدُر عنه الأقوالُ المَرْضيَّةُ والأعمالُ الزَّكيَّةُ الَّتي تُكسِبُه شعورًا بالفخر والاستعلاء؛ لأنَّه صار عبدًا لله، لا فخرًا واستعلاءً على المؤمنين، بل على الكافرين، كما قال الله تعالى في وصف من استبدلهم بمن هو خيرٌ منهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:54].
وقال تعالى في شأن المجاهدين في سبيله المقاتلين لأعدائه: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}[آل عمران:139]، وأصحابُ النَّبيِّ ﷺ ما بلغوا ذلك المجدَ وتلك العلياء الَّتي استَحَقُّوا بها ذلك الثَّناءَ العَطِرَ من مولاهم إلاَّ لمَّا تحلَّوْا بخُلُقِ العزَّةِ مع الكافرين وخلق الرَّحمةِ مع المؤمنين، كما قال اللهُ ـ جلَّ وعلا ـ فيهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}[الفتح:29]، وقال الله تعالى في حثِّ المؤمنين على التَّمسُّكِ بالعزَّة حتَّى لا يَطمَعَ فيهم طامعٌ فيؤولَ أمرُهم وجَمْعُهم إلى ذُلٍّ وهوانٍ {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم}[محمد:35].
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: «العزَّةُ والعلوُّ إنَّما هو لأهل الإيمان الَّذي بَعَثَ اللهُ به رُسلَه وأَنزَلَ به كُتبَه، وهو علم وعمل وحالٌ، فللعبد من العلوِّ بحسب ما معه من الإيمان، وله من العزَّةِ بحسب ما معه من الإيمان وحقائقِه، فإذا فاته حظٌّ من العلوِّ والعزَّةِ، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علمًا وعملاً، ظاهرًا وباطنًا»(2).
والفردُ أو الأمَّةُ إِنِ ابتُلُوا ببعض الأخلاق السَّيِّئَةِ فيُمكنُ أن تجد لإصلاح حالهم سبيلاً، لكن إذا تسرَّبَ إليهمُ الذُّلُّ والمهانَةُ فهيهات أن تَجِدَ في نفوسِهم انصِيَاعًا وقبولاً، قال ابنِ باديس رحمه الله: «الجاهل يُمكِنُ أن تُعلِّمَه، والجافي يُمكِنُ أن تُهذِّبَه، ولكنَّ الذَّليلَ الَّذي نشَأَ على الذُّلِّ يَعسُرُ أو يَتعذَّرُ أن تَغرِسَ في نَفسِه الذَّليلَةِ المهينةِ عزَّةً وإباءً وشهامةً تُلحِقُه بالرِّجال»(3).
لذا يتعيَّنُ على المُسلِم أن يَكُونَ عزيزًا، مُعتَدًّا بنَفسِه في مواقف الذُّلِّ والهوان، لا يَقبَلُ النَّيلَ من دينه ولا نفسِه، ولا أن يُمَسَّ في أهلِه ولا ماله بغيرِ حقٍّ، لا يَرضَى أن يكونَ مُستبَاحًا لكلِّ طامِعٍ أو غَرضًا لكلِّ هاجِمٍ.
والأمَّةُ تكون عزيزةَ الجانب، أَبِيَّةَ الخُلُقِ حين تُربِّي أبناءَها على خُلُقِ الشَّجاعةِ وصرامَةِ العزمِ وعُلُوِّ الهِمَّةِ، تكون عزيزةً حين تَلِدُ أبطالاً، وتُعِدُّ أجيالاً، وتَبذُلُ نَفِيسَ المُهَجِ في تَثبِيت معاقِدِ العِزِّ وحفظِ معاقلِ الإباءِ والضَّيم، لا يقعد بها بُخْلٌ ولا يُلهِيها أَمَلٌ، ولكن قد تَذِلُّ وتَفقِدُ كرامتَها حين تُعرِضُ النُّفوسُ عن الغايات النَّبيلةِ، وتَزِلُّ الأقدامُ وتضلُّ الأفهامُ حين يتلاشى التَّديُّن من مظاهر الحياة، فيَحِلُّ محلَّ عزَّةِ المؤمن ورجولَةِ المسلم صُوَرُ الحَسْنَاوَاتِ من النِّساء وعلائم وأعلام الكفَّار من المُغنِّين والرِّياضيِّين والفَنَّانِين وساء أولئكَ رفيقًا، وتختفي علومُ الإسلام ومعارفُ شَرِيعَتِه الغرَّاءِ لتَحُلَّ محلَّهَا الثَّقافَاتُ السَّخيفَةُ والمبادئُ الضَّالَّةُ والمَناهِجُ المُنحَرِفَةُ.
ومظاهرُ عزَّةِ المُؤمِن كثيرةٌ، وحسبُه منها أن يُظهِرَها ويعتزَّ ويَفرَحَ بها، لا يَحبِسُهُ الحياءُ ولا يَمنَعُه الخوفُ عن إبدائها والمجاهرةِ بها، حالاً وقالاً، دعوةً وتبليغًا، ومن أَهمِّ هذه المظاهِرِ وأَجلِّها أن يَسعَى المُؤمِنُ لتَعظِيمِ شعائر الله والعمل بأحكام الشَّرع، ففي ذلك إعزازٌ لدين الله، ومن أَعَزَّ دينَ الله أَعزَّهُ اللهُ، ومن أذَلَّ دينَه أذلَّهُ اللهُ، قال النَّبيُّ ﷺ:«لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وذُلاًّ يُذِلُّ بِهِ الكُفْرَ»(4).
والمعنى أنَّ من قَبِلَ دينَ الله وعَمِل به وأَظْهَره كان عزًّا له يُعِزُّه به، ومن لمْ يَقْبَلْه وكَرِهَه وأعرَضَ عنه وخشِيَ أن يُعيَّرَ به كان ذُلاًّ له يُذِلُّه اللهُ به، إمَّا بسَبْيٍ أو قَتْلٍ أو دَفْعِ جِزيَةٍ، وكان تميمٌ الدَّاري رضي الله عنه ـ راوي الحديث ـ يقول: «قَدْ عرفتُ ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب مَنْ أَسلَمَ منهم الخيرَ والشَّرَفَ والعِزَّ، ولقد أصابَ من كان منهم كافرًا الذُّلَّ والصَّغَارَ والجِزيَةَ»(5)، وقال رجلٌ للحسن: إنِّي أريدُ السِّنْدَ فأوْصِنِي، قال: أَعِزَّ أَمْرَ الله حَيثُمَا كُنْتَ يُعزَّكَ اللهُ، قال: فلقد كنتُ بالسِّنْدِ وما بها أحدٌ أَعزَّ منِّي»(6).
ومن مظاهر العزَّةِ الجليَّةِ في دينِنا نَهْيُ المسلم من أن يَتشبَّهَ بالكفَّار على شَتَّى مِلَلِهم وأصنافِهم في عقائدهم أو عباداتِهم أو عاداتِهم أو في أنماط السُّلوكِ الَّتي هي من خصائصِهم، ذلك أنَّ التَّشبُّهَ بهم إنَّما هو تَعبِيرٌ ظَاهِرٌ عن مشاعر باطنةٍ تُخفِي بواعِثَ كامنةً وراء الأشكال الظَّاهرَةِ الأمر الَّذي يُؤدِّي بالمُتشبِّه إلى قبول كلِّ دخيلٍ والتَّنكُّر للأصيل والاستئناس بالأعداء ومَحبَّتِهم وتَبجِيلِهم، بل رُبَّما أدَّاه ذلك إلى ازدراء قَومِه واحْتِقَارِهم في سُلُوكِهم ولِبَاسِهم ومُستَحْسَنِ عاداتِهم، وكُلَّما كانت وجوهُ المُشابَهةِ أَكْثَرَ كان التَّأثُّر في الأخلاق والخلال أعظم، والقضاء على التَّمييز بين المؤمنين المَهديِّين وبين المغضوب عليهم والضَّالِّين أَسْرَعَ وأَنْكَى، ثمَّ إنَّ مُشابهَةَ المُسلِم للكافر في الغالب لا بدَّ أن تَجعَلَه في مقامِ الذَّليلِ الضَّعيف؛ إذ لا يُقلِّدُ إلاَّ المخذولُ الغبِيُّ، قال ابنُ خَلدُون في «مُقدِّمَتِه» (1/242): «ولذلك ترى المَغلُوبَ يَتشبَّهُ أبدًا بالغَالِبِ في مَلبَسِه ومَرْكَبِه وسِلاحِه في اتِّخاذِها وأَشكَالِها بل وفي سائر أحوالِه».
لقد تناسى أو تَجاهَلَ كثيرٌ من المسلمين أنَّ عزَّ هذه الأمَّةِ ورفعةَ أهلِ الحقِّ والخيرِ فيها لن يَتِمَّ إلاَّ بالعَضِّ على هذا الدِّينِ والنَّهَلِ منه عقيدةً وشريعةً، صِدقًا وعدلاً، والنُّفرَةِ من مسالك الجاهلين والمُباينَةِ لسَبِيلِ المَارِقِين، والبُغضِ لأخلاق الكافرين، والَّذي يَستَصْغِرُ نَفسَه ويَستَعْظِمُ عدوَّه، لا يُفكِّرُ إلاَّ بعقله ولا يُبصِرُ إلاَّ بعَيْنَيْه يَفقِدُ لا محالةَ طَعْمَ العِزَّةِ، وهو أَضْعَفُ من أن يُحقِّقَ لأمَّتِه مَجْدًا أو يُحرِزَ لها ذِكرًا أو يَحفَظَ لها حقًّا أو يَرفَعَ لها رأسًا، ويكون أبعد ما بين المَشرِقِ والمغرب إذا كان يرى في التَّديُّن واتِّبَاعِ أحكام الشَّرع عَائِقًا ومانِعًا يحول دون لحوقِه برَكْبِ التَّقدُّمِ في العلوم والمعارف والصَّنائِعِ والعَيْشِ الكريم.
إنَّ كلَّ ما يَسعَى لأجلِه المَرْءُ من إِحرَازِ المَناقِبِ وابتناء المكاسب لِيَعْلُوَ في دنياه ويرقى في مُنَاه، فهو من عطاء الله وفضلِه، وما عند الله لا يُنَالُ إلاَّ بطَاعَتِه وابْتِغَاءِ رِضَاه، يقولُ اللهُ تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}[فاطر:10].
ورحم اللهُ عُمَرَ الفاروق ورضي عنه حين قال كلمتَه المأثورةَ الَّتي يَجِبُ على المسلمين المُبتَغِين للعزَّةِ أن يَجْعَلُوها شِعَارَ صلاحِهم وإصلاحِهم، ويَنْحِتُوها في ذَاكِرَةِ مَنْ يُربُّونَهم من الأجيال كنَحْتِ النَّقْشِ على الحَجَرِ، يُذكِّرُون بها أَنفُسَهم ويُرهِبون بها عَدُوَّ الله وعَدُوَّهُم: «إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بالإِسْلاَمِ، فمَهْمَا نَطْلُبِ العِزَّةَ بغَيْرِ ما أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أذَلَّنَا اللهُ»(7)، فلا اعتزازَ إلاَّ بالإسلام، ولا انْتِمَاءَ إلاَّ للإسلام، ولا شَرَفَ إلاَّ في الإسلام.
أبـي الإسـلامُ لا أبـا لـي سـِوَاهُ          إذا افْـتَـخَــرُوا بـقَـيْـسٍ أو تَـمِـيـمِ



(1) «تاج العروس» (15 /219).
(2) «إغاثة اللَّهفان» (2 /926).
(3)  «الآثار» (4/64).
(4) رواه أحمد في «المسند» (16957).
(5)  رواه أحمد في «المسند» (16957).
(6)  حلية الأولياء (2 /152).
(7) الحاكم في المستدرك (1 /61) وصححه، ووافقه الذهبي والألباني.

ليست هناك تعليقات:

';