بيان الشيخ بن_حنفية_العابدين حول الكلمة الشهرية للشيخ الدكتور -علي_فركوس- وما خلفته من ردود على الساحة الدعوية ببلادنا:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيأت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

أما بعد: فإن الله تعالى قد ربى خلقه بنعمه، وربى العقلاء منهم بكتبه ورسالاته، وختمها برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأكمل الله به الدين، وأتم النعمة على عباده المؤمنين، ورضي لهم الإسلام دينا أبد الآبدين .
وتولى الله تعالى حفظ أصل هذا الدين بحفظ كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد كما قال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، وحفظ بيانه وهو سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسر لها من العلماء الأعلام، والجهابذة العظام الكرام، من ربطها بالأسانيد الموصولة إلى المقتدى بأقواله وأفعاله وتقريراته، وتلك هي الترجمة الحقة الوافية لكل ما فهمه من القرآن، فمن تمسك بهذين الأصلين على فهم سلف الأمة كان من الفائزين، ومن تنكب عن ذلك كان من الخاسرين، أو ناله من الخسران بقدر ما حاد فيه عن هدي الصالحين، قال الله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا"، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض".
ووفر ربنا مع ذلك لهذا الدين أضربا أخرى من الحفظ، منها الحكام العدول الذين أقاموا الإسلام إقامة عملية في شؤون الحياة المختلفة، واستمر ذلك قرونا، فكان دليلا تاريخيا عمليا حضاريا على قيادة هذا الدين للحياة قيادة رشيدة شاملة عامة، تضرب في نحر كل متقول أفاك ينظر إلى الإسلام على أنه علاقة بين العبد وربه فحسب .
ثم تخلى حكام المسلمين بالتدريج عن إصلاح الدنيا بالدين، والجمع بين هذه وخدمة طريق الآخرة كما قال الله تعالى: "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، وقال: "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا" .
وقد كان العلماء في تلك العهود التي قام فيها الحكام بواجبهم في الجملة منصرفين إلى الجانب العلمي النظري الذي أثريت به المعارف العلمية والعملية، ونهضت به عمارة الأرض، فأرسوا القواعد، وبينوا المقاصد، وشادوا صروحا علمية عظيمة، تشهد لها آثارهم، وما زالت جهودهم مستمرة تستميت في الذود عن حياض الدين، وتدفع عنه كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وانتحال الغالين، لتحافظ على البقية الباقية منه بعد أن أفلتت قيادة الحياة من المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" .
لكن هذه الجهود في الكثير من الأحيان لا تجد امتدادها اليوم في حياة الناس العامة التي هيمن عليها التغريب والتقليد، والفسوق والعصيان، فصارت فتنة لكثير من المسلمين حين يوازنون بين ما يتعلمونه ويدرسونه، وبين ما يحيونه ويعيشونه، وبينهما من التناقض ما الله به عليم، مما دفع بعضهم إلى اليأس والقنوط والإحباط، وقد يكون هذا وراء ما نشهده وشهدناه من فصول دامية أتت على الأخضر واليابس في بعض بلاد المسلمين، فلزم التفكير الملي اليوم في الطرق التي يهيأ بها لأحكام الشرع وجودا عمليا ولو في نطاق محدود، بعد أن تعذر ما هو حلمنا الذي لا يبلى في قلوبنا حتى نموت، فإن الله تعالى إنما أنزل رسالاته لتصلح بها النفوس، وتزكو بها القلوب، فإن صلاح الفرد بالعقيدة الحقة هو الطريق الأمثل للصلاح الظاهر الخاص بالفرد، والعام للأمة، قال سبحانه: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز".
وأبزر مثال يحتذى في هذه النظرة الشاملة للدعوة إلى الله في هذا العصر ما كانت عليه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأفقها الواسع البعيد الغور، ونظرتها إلى الإصلاح في ميادين العقائد والأعمال والسلوك، أنبأ عن ذلك ما بنته من المدارس والمنتديات، وما أصدرته من الجرائد، وما بثته من العلوم في الحلقات، وما حشدته من طاقات الأمة المختلفة، تحت راية التوحيد الخالص، وبعيدا عن الفئوية الضيقة، وأحسب أن القانون الأساس لهذه الجمعية التي استأنفت تلك المسيرة، وما تضمنه من مواد كفيل ــــ والله ــــ بعد توفيق الله تعالى بالنهوض بمهام عظيمة جليلة، متى توفرت الكفاءات العلمية الشرعية، والخبرات والتجارب، وتدعم ذلك بتطوع المتطوعين، وإنفاق المحسنين، على أن كثيرا من الخير قد تحقق ولله الحمد في ربوع هذا الوطن، ووجود شيء من الدخن والغبش لا يحجب هذا الخير إلا عمن تعامى أو جحد، فإن من القبح بموضع أن يُبخس الناس أشياءهم .
لقد التزمت منذ مدة أن لا أدخل في هذا الذي أسرف الناس فيه وبخاصة الدعاة من الردود، والردود المضادة، لما كان الأمر متعلقا بشخصي، فتنازلت عن حقي، لما علمت من أن حظوظ النفس قد ضربت في هذا الأمر بسهم وافر، وأن المجازفات قد غلبت على معظم ما سمعنا ونسمع، والدعوة إلى الله من أعظم العبادات، والإخلاص إلى الله فيها لبها، فلم أسجل لا بلساني ولا بقلمي شيئا يذاع على الناس مرتبطا بشخص بعينه، صابرا على الأكاذيب والافتراءات والاستفزازات، مستيقنا أن الزبد سيذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، إلا ما كان في بداية الأمر منذ أزيد من عقد حيث ذكرت فالح الحربي في كتابي المخرج من تحريف المنهج، ورددت عليه، وسجلت شريطا بينت فيه اللبس الذي أوقع فيه بعض أهل العلم حين نقل إليهم بعض كلامي مبتورا عن سياقه بخصوص كتابي هل الحزبية وسيلة إلى الحكم بما أنزل الله .
فلما تعلق الأمر بحقوق الدعوة علينا وما تتعرض له من المخاطر بسبب بيان الدكتور محمد علي فركوس الذي قرئ معظمه قراءة خاطئة، واستغلته جهات منها الحاقدة، ومنها الجاهلة، ومنها المتربصة، ومنها التي خشيت عواقبه وآثاره، وهو الأمر الذي كنت قد توقعته قبل في خاطرة من خواطري لم يمض عليها كبير وقت، يمكن الرجوع إليها حيث أثبت قول القائل:
أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون له ضرام
وإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام
لهذا فإني أذكر ما يلي:
1 ـــ إن المسألة التي أثارها صاحب الكلمة وهي ذكره من يشملهم وصف أهل السنة والجماعة بالمعنى الأخص، ومن لا يدخلون فيه؛ هي للذين يكتبون عن الفرق والجماعات، ولا أحسب أنها مما يصلح أن يكون موضوع كلمة تنشر على النطاق الواسع، لأن الشائع في أعراف الناس اليوم أن البيانات إنما تخصص للكلام على الأمور الطارئة والنوازل الجديدة، ولا ندري ما الذي جعل هذا الموضوع يحتل الصدارة عند الشيخ في هذا الظرف ؟ .
2 ـــــ وقد يكون الذي دفعه إلى ذلك ما لاحظه هو وما نلاحظه جميعا من تغول بعض الفئات التي ذكرها وتطاولها، وما تحظى به من حظوة ومنزلة، أو ما تمارسه من فساد عقدي وسلوكي وتكفير وتقتيل، ومن ذلك المفاسد التي لحقت المنظومة التربوية، ومنها التفريط في اللغة العربية، وقبل ذلك التشكيك في أصول الإسلام، والتهجم على مبادئه، لكن علاج هذه الأمور التي نعانيها نحن في الميدان بدرجات متفاوتة منذ عقود لا نقر التعامل معها على هذا النحو .
4 ـــ وبعد تجاوز مسألة الحاجة إلى هذا البيان بهذا الشكل فإنه يتعين على الداعي إلى الله أن يحترز فيما يقول من الآثار السلبية على الدعوة التي تعاني من التضييق ما لا يعلمه إلا الممارسون لها عمليا، وهم الأئمة الموظفون والدعاة المتطوعون .
5 ـــــ وما أحسب أن الشيخ يجهل أثر هذا الكلام على الوحدة الوطنية والسكينة الاجتماعية، وهما من أعظم ما ينبغي أن نسعى في توفيره لنتمكن من نشر الحق، والحق عليه نور، والنفوس تتقبله متى أجدنا التعامل مع المخالف من غير تفريط .
6 ـــــ ولقد كان لتلك الفتنة التي ضربت بلادنا قبل ما يقرب من عقدين أثر سيء بالغ على الدعوة، ما زلنا نعاني منه، مع أن الأمة لما كان الخير غالبا عليها تجاوزت ما خلفته المحنة من تصنيف وتمييز، بلغ تطويل الثوب وتقصيره، وحلق اللحية وإعفاءها، والبدء بالسلام في الهاتف أو بصباح الخير ومساء الخير، وما إلى ذلك، وقد كنت ـــــ والله ـــــ أتوقع أن تكون آثار تلك الفتنة على الدعوة أعظم سوءا من الأنفس التي أزهقت، والخراب الذي نال المتاع والأموال، وقد سجلت هذا المعنى في بعض كتبي .
7 ــــ وهذا الذي يسمى بالسكينة الاجتماعية وأمن الوطن هو من شؤون الحاكم، فالمساس به مساس بصلاحياته، ومراعاته تقتضي أن المرء يدعو إلى ما يراه حقا مراعيا أن لا يمس بهذا المبدإ، ونحن لسنا مخيرين في هذا الأمر، حتى يقول القائل وما أسهل القول اليوم: لير الحاكم ما شاء، فما لنا وله؟!!، إننا لو كنا مخيرين في مراعاة هذا الأمر لتلونا قول ربنا ـــ ونحن نتلوه ــــ وهو أصدق القائلين: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين"، ولتلونا أيضا قوله سبحانه: "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار"، فالتسوية لا تجوز بين كافر ومسلم، ولا بين عاص ومطيع، ولا متسنن ومبتدع، ولا طاعن في أصول دينه ومتمسك بهدي ربه، ولا مخرب لوطنه ولغة قومه ومن يحافظ على ذلك كله، هذا نعلمه، لكننا نتعامل مع واقع لم نصنعه، فنتقي الله ما استطعنا، وندفع بما لا يرتد علينا بشر أعظم مما نحن فيه، هذا ما تقتضيه قواعد الشريعة التي جاءت لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
8 ـــــ فمثل الشيخ في علمه لا أحسب أنه يخفى عنه أثر بيانه على الدعوة إلى الله في بلده، وأن كلامه يستغل في التضييق عليها، وقد ظهرت بوادر ذلك، وكأن بعض الجهات كانت تنتظره، فهذه هي الثمرة المرة العاجلة للبيان، وما شاء الله كان، والله المستعان .
​9 ـــــ ومما ينبغي أن يوضح أن الذين استنتجوا من البيان أن صاحبه قد كفر الطوائف التي أخرجها من دائرة أهل السنة قد قولوه ما لم يقل، كيف وقد صرح فيه بأنهم من أهل القبلة، فهذا تكذيب منه لإفكهم، ولعله إنما فعل لعلمه تعودهم على التحريف، فعلى الناس العقلاء أن لا يجاروا هؤلاء الذين يبتغون للناس العنت .
10 ــــ نعم في تلك الطوائف من يقول بالحلول والاتحاد، وبالاستغناء بالحقيقة عن الشريعة، وبتفضيل الأولياء على الأنبياء، ومن يزعم أن الشريعة ليست صالحة لهذا الزمان، ومن يقول إنه يكتفى في الدين بالقرآن عن السنة وهم الذين يسمون بالقرآنيين كذبا وزورا، وهذا كله كفر، وفيهم من يفعل أو يقول أو يعتقد ما دون ذلك من المخالفات والبدع، ومن السلفيين أنفسهم من فيهم مخالفات، وأبرزها الغلو في التجريح، وما ترتب عليه من الهجران، والتعالي على الناس، وغير ذلك .
10 ــــ إنني في الختام أخاطب كل الدعاة إلى الله تعالى في بلدنا هذا كيفما كانت مواقعهم، أئمة مساجد، أو متطوعين، أو أعضاء في الجمعيات أن يخلصوا في أعمالهم، وأن يدعوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، على بصيرة بدينهم، ومعرفة بواقع بلدهم، وأن عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى مع أمثالهم من العلماء وطلاب العلم وغيرهم، لكن لا يصح أن يرتبطوا بأهل العلم خارج بلدهم ارتباط تبعية، بحيث يرجع إليهم فيما يقررونه من شؤون الدعوة على ضيق الهامش المتاح لهم فيها، فإن هذا صار في عرف دول اليوم تدخلا في الشؤون الداخلية للبلدان، مع أنه في نفسه غير مقبول إلا على وجه التعلم والتعليم، وعليهم مع ذلك أن يحسنوا إدارة الخلاف فيما بينهم فلا يخرجون به عن حيز الجدال بالتي هي أحسن كما أمرهم الله إلى هذه الرعونات النفسية والمهاترات الكلامية التي صارت فتنة لضعفاء الدين، مع أن مقاليد الحياة بيد غيرهم .
11 ـــــ ثم إنني أدعو حكام بلدي إلى أن يقوموا بواجب الرعاية لدينهم وحماية أصوله من الهجمات التي تستهدف التشكيك فيه، والانتقاص من مقدساته، والتطاول على أعلامه، والاستهانة بلغته، وهذا أقل ما ينبغي لهم أن يرعوه منه من جملة ما هم مطالبون به، بل هو علة وجودهم حكاما، لصيانة وحدة الأمة من التفكك، فإن لم يفعلوا وهذا ــــ غير مشروع ـــ فليتيحوا الفرص بمساواة وتكافؤ للناس أن يدعوا إلى ما يرون في حدود ما أسلفنا ذكره .
قال هذا #بن_حنفية_العابدين بن محي الدين الجزائري، بصفته الشخصية، لا بصفة كونه منتسبا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، متحملا تبعات ما قال وحده، والله الهادي، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
مدينة معسكر في الحادي عشر من رجب سنة تسع وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة، الموافق للتاسع والعشرين من شهر مارس سنة ثمان عشرة وألفين.


إستماع وتحميل الكلمة الصوتية:     هـــنا

ليست هناك تعليقات:

';