حقيقة حب الوطن الشيخ عزالدين رمضاني

كثيرٌ أولئك الَّذين سوَّدوا الصُّحف بوابل التُّهم والأراجيف، وصوَّبوا سهامهم الممزوجة بالسُّمِّ إلى نُحورِ من اصطلحوا على تسميتهم بـ«الوهَّابيِّين» أو «السَّلفيِّين»، يجرِّدونهم من أدنى ما اتَّفقت المخلوقات على حبِّه والحنين إليه والارتباط به، وهو الوطن ـ بأرضه وسمائه وساكنيه ـ، ويجعلونهم في خانة أعداء الأمَّة ومبغضي الوطن، وقليلٌ أولئك المنصفون الَّذين لا تستفزُّهم التُّهم الملفَّقة، ولا تُغير على عقولهم الأحكامُ المسبقة، إلّاَ بعد النَّظر في الدَّعوى وما بُنيت عليه من دلائل وحجج، وما حوته من حقائق أو أباطيل، ومع هذا القليل يستعذب الحديث، ويُثار النِّقاش، وتستبين الحقائق، ويزال الغمط.
إنَّ غاية ما يرمي به الظَّالمون الأدعياء المظلومين الأبرياء، قولهم المرجف: «هؤلاء لا يحبُّون وطنهم»، وهي عبارة لو روعي فيها مجرَّد اللَّفظ لاستوجب إنزال العقاب الزَّاجر على من قال ذلك، لكن العاقل يبحث ما وراء الألفاظ من المعاني والمدلولات؛ إذ هي الحاكمة على المقاصد والنِّيَّات.
وسرُّ الادِّعاء الآثم يرجع إلى مقولة يظنُّ الزَّاعمون المبطلون أنَّهم أحقُّ النَّاس بها، وبفهم معناها، وتجسيد مقتضاها، وأنَّ غيرهم ـ ممَّن يتَّهمونهم بالعمالة أو الخيانة ـ عازفون عن التَّرنُّم بها، زاهدون في الحديث عنها، بل يزعمون أنَّهم يُجهِّلون أو يبدِّعون أو يؤثِّمون كلَّ من نطق بها لسانُه أو خطَّها يراعُه مستشهدًا ومستدلًّا بها، أو متحاكمًا إليها ومؤسِّسًا عليها حديثًا أو خطابًا، تلكم هي المقولة الشَّهيرة المنسوبة ـ كما قيل ـ لبعض السَّلف رضي الله عنهم:  «حبُّ الوطن من الإيمان».
وهذا الزَّعم في غاية التَّهافت والبطلان، وهو شبيه بما نسبه «العلِيوِيُّون» للمصلحين من «جمعيَّة العلماء» حين نشروا مقالًا في جريدتهم تحت عنوان: «المصلحون يحاربون لا إله إلَّا الله»، وذلك لمَّا تصدَّى علماءُ الجمعيَّة لبدعةِ القوم في رفع أصواتهم بالتَّهليل في تشييع الجنازة، فكان أن أنكروا عليهم فعلتهم المخالفة للسُّنَّة وما يُناسب جلال الموت ورهبته، وهو الخشوع والتَّذكُّر والاعتبار بمن حملوا على الأعناق.
والخشوع معروف هو غير الصُّراخ والعويل والضَّجيج والتَّهويل، وقد كتب يومها العلَّامة البشير الإبراهيمي رحمه الله مقاله الرَّائع بعنوان: «إمَّا سُنَّة وإمَّا بدعة»، وكان ممَّا سطَّره يراعه الجريء النَّاطق بالحقِّ: «إنَّ لا إله إلَّا الله لا توضع في غير مواضعها يا قوم! فمالكم إذا قيل لكم: لا تضعوها في غير محلِّها، ومنه الجهر بها في التَّشييع، قلتم متجرِّئين: إنَّنا نحارب لا إله إلَّا الله، كَبُرَت كلمة تخرج من أفواهكم»([2]).
والحقيقةُ الَّتي ينشدها أهل الإنصاف، ويأباها أهل الإرجاف، ولا يرضونها إلَّا نقيصة يذمُّون بها من لا يريدون إشراكه في حبِّ الوطن، ولو كان من أبنائه، هي أنَّ مقولة: «حبُّ الوطن من الإيمان» ليست حديثًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، يتواصى المسلمون بذيعه في مجالس الوعظ والتَّذكير، وتسطيره في كتب العلم مع التَّسليم بصحَّة نسبته إلى النَّبيِّ المعصوم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ المرجع في قبول الأحاديث أو ردِّها هي الأصول المعتمدة عند أهل الصِّناعة الحديثيَّة، وقد حَكَمُوا بوَضْعِه، فلا نُخالف ما قالوه وهم العلماء، وغيرهم تَبَع لهم وآخذ منهم وعنهم.
بيد أنَّهم ـ مع اعتقادهم عدم صحَّة الحديث ـ يؤمنون بمعناها، ويرون من أدلة الشَّرع ما يخدم مبناها.
فهناك قدرٌ مشترك بين المسلم والكافر في حبِّ الوطن ـ مَهْد النَّشأة والولادة ـ فكلٌّ يحبُّ وطنه كحبِّه لنفسه وماله وأهله، وهذا لا يمكن أن يكون من لوازم الإيمان؛ لأنَّه غريزيٌّ في الإنسان، وقد فطر الله عليه جميع المخلوقات، فالإبل تحنُّ إلى أوطانها والطُّيور تحنُّ إلى أوكارها وهكذا كلُّ نفس مخلوقة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «والنَّفس تحنُّ إلى الوطن إذا لم تعتقد أنَّ المقام به محرَّم أو به مضرَّة أو ضياع دنيا»([3]).
وهناك ما يتميَّز به المسلم عن الكافر وعن الحيوان ـ وهذا سرُّ الحديث ـ وهو أنَّه يجتمع في المسلم الحبُّ الفطريُّ الغريزيُّ والحبُّ الشَّرعيُّ، باعتبار أنَّ حبَّه لوطنه نابعٌ من أنَّ أرضه موطنٌ لإقامة أكثر الشَّعائر كالجمعة والجماعات والأذان وغير ذلك، ومن حبِّ العلم ـ وإن كان ضئيلًا ـ الَّذي يكتسبه المسلم فيه، ومن حبِّ اجتماع المسلمين وتنظيم أمورهم لعمارة الأرض على ترابه، ومن حبِّ الأهل والأقارب والجيران وما يتولَّد من ذلك من الطَّاعات والقربات؛ كَبرِّ الوالدين وصلة الأرحام وكفالة الأيتام والإحسان إلى الجيران ونحو ذلك.
فحبُّ الوطن الإسلاميِّ مشروع، ولا يجوز لمسلم أن يتنكَّر له بحجَّة عدم ثبوت ما يفيد ذلك باللَّفظ الصَّريح أو المعنى الصَّحيح، فقد جاء من نصوص الشَّرع ما يدلُّ على أنَّ حبَّ الوطن مشروع، ومحبُّه مأجور غير مأزور إذا احتفت بهذا الحبِّ عوامل القيام بطاعة الله وعبادته وعمارة أرضه والإحسان إلى خلقه.
فهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله يقول عند حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أَوْضَعَ ناقته ـ أي أسرع بها ـ وإن كانت دابَّة حرَّكها من حبِّها»([4]).
قال رحمه الله: «فيه دلالة على مشروعيَّة حبِّ الوطن والحنين إليه»([5]).
وأشار العلَّامة المناوي في لَفْتَةٍ بديعة إلى حبِّ الأوطان عند شرحه لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِهِ»([6]).
قال رحمه الله: ««فليعجِّل» أي فليسرع ندبًا، «الرُّجوع إلى أهله» أي وطنه وإن لم يكن له أهل، «فإنَّه أعظم لأجره» لِما يدخله على أهله وأصحابه من السُّرور بقدومه؛ لأنَّ الإقامة بالوطن يسهل معها القيام بوظائف العبادات أكثر من غيرها، وإذا كان هذا في الحجِّ الَّذي هو أحد دعائم الإسلام، فطلب ذلك في غيره من الأسفار المندوبة والمباحة أولى… وفيه ترجيح الإقامة على السَّفر غير الواجب» اهـ من «فيض القدير» (1/418).
وقد نبَّه الحافظ ابن كثير وغيره في «سيرته» على «أنَّ دعاءه صلى الله عليه وسلم أنْ يحبِّب اللهُ إليهم المدينة كحبِّهم مكَّةَ أو أشَّدّ، إنَّما هو لِما جبلت عليه النُّفوس من حبِّ الوطن والحنين إليه، وفي قصَّة الوحي ـ وهي في «الصَّحيح» ـ أنَّ ورقة بنَ نَوْفَل لمَّا قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيْتَنِي أكونُ حيًّا إذْ يُخرجك قومك! قال صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!» قال: نعم, قال السُّهيلي: «ففي هذا دليل على حبِّ الوطن، وشدَّة مفارقته على النَّفس»([7]).
فحبُّ الوطن ليس نشيدًا تستعذبه الألحانُ، وليس لافتة تَزْيين تعلَّق على الجدران، ولا وقفة تخشع لها الصُّور والأبدان، فالحبُّ رخيصٌ حين يكون زعمًا وكلامًا، ولكنَّه غالٍ وثقيلٌ حين يكون عملًا وتضحيةً وإقدامًا.
وإنَّما حبُّ الوطن المفعم بالإيمان والمشبَع بالتَّفاخر به والاعتزاز به ـ حقًّا وصدقًا ـ إنَّما يكون بالحفاظ على أَمْنِه وسلامته، والابتعاد عن ترويع أهله وإشاعة القتل والنَّهب والفوضى وجميع صور الإفساد في رُبُوعِه تحت أيِّ غطاء كان، ويكون بنبذ العصبيَّات والنَّعَرَات والتَّحزُّبات الَّتي تسعى إلى تَفْرِقَتِه وتشتيته، وتَحُول دون اجتماعه ووحدته، ويكون بلزوم جماعة المسلمين المنتظمة تحت لواء وليِّ الأمر، والانضمام في سِلْكِها والاجتماع على كلمتها وعدم التَّشجيع على مفارقتها وشقِّ عصاها ومخالفة سبيلها والافْتِيَاتِ عليها، ويكون بطاعة من أوكل له تسيير شؤون الأمَّة وإعانته على ما حمل القيام به وجمع الكلمة عليه، وردِّ القلوب النَّافرة إليه، والدُّعاء له ولأعوانه بالصَّلاح والتَّوفيق والسَّداد، كما يكون حبُّ الوطن باستغلال خيراته وثرواته وصيانتها من عبث المفسدين وخدمة أرضه ومن عليها من العباد والممتلكات والمكاسب والإنجازات؛ ليستغني عن غيره، ويعظم في عين أعدائه الطَّامعين فيه، والسَّعي به نحو الأكمل والعيش الأفضل، إذ ليس من شرط الوطن أن يكون كاملًا لا نقصَ فيه، هذا أمر مستحيل، لكن حسبنا القرب من الكمال والتَّقدُّم نحو الأحسن.
فهذه وطنيَّة أهل الإسلام، ليس فيها تدليس ولا إيهام، بل هي وطنيَّة تحفظ الثَّوابت وتقوِّي الارتباط بشرع الله تعالى، إذ هو المخرج من جميع الفتن والمصائب الَّتي تحلُّ بالأمَّة.
واللهَ نسأل أن يحفظ أوطان المسلمين عامَّة ووطننا خاصَّة من كيد الكائدين وتربُّص المعتدين، وأن يعين ولاة أمورنا على استتباب الأمن وإقامة العدل ونشر الخير، وأن يهدي من ضلَّ عن سواء السَّبيل ويوفِّقه للتَّوبة والرُّجوع إلى الله، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.


([1]) نشر في مجلَّة «الإصلاح»: العدد (14)/جمادى الأولى ـ جمادى الآخرة 1430هـ.

([2]) «الآثار» (1/290).

([3]) «المجموع» (27/463).

([4]) البخاري (1802).

([5]) «الفتح» (3/782).

([6]) «صحيح الجامع» (734).

([7]) «الرّوض الأنف» (1/413).

ليست هناك تعليقات:

';