الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فمِنَ المعلوم أنَّ
مُصطلَحَ «أهلِ السُّنَّة والجماعة» ـ بالمعنى العامِّ ـ يُطلَقُ على ما
يُقابِل الشيعة؛ فتدخل الفِرَقُ المُنتسِبةُ إلى الإسلام في مفهوم أهل
السنَّة، الذي «يُرادُ به: مَنْ أَثبتَ خلافةَ الخلفاء الثلاثة؛ فيدخل في
ذلك جميعُ الطوائف إلَّا الرافضة»(١).
أمَّا
إطلاقُ مُصطلَحِ «أهل السنَّة» ـ بالمعنى الخاصِّ ـ فإنما يُرادُ به ما
يُقابِل أهلَ البِدَع والأهواء؛ فلا يدخل في مفهومِ أهلِ السنَّة إلَّا
مَنْ يُثبِتُ الأصولَ المعروفة عند أهل الحديث والسنَّة، دون أصحاب
المقالات المُحدَثة مِنْ أهل الأهواء والبِدَع(٢).
غير
أنَّ المُلاحَظ حدوثُ التداخل بين مفهوم المُصطلَحَيْن، وانتفاءُ التمييز
بين المعنيَيْن عند كثيرٍ مِنَ المُخالِفين لمنهج السلف؛ فيُطلِقون
مُصطلَحَ «أهلِ السُّنَّة والجماعة» على الأشاعرة والماتريدية ومَنْ سَلَك
طريقَهما إطلاقًا واحدًا معرًّى عن الفرق والتمييز بينهما؛ وضِمْنَ هذا
المعنى قال عَضُدُ الدِّين الإِيجيُّ(٣): «وأمَّا الفِرْقةُ الناجية المستثناةُ الذين قال فيهم: «هُمُ الَّذِينَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»(٤) فهُمُ الأشاعرةُ والسلفُ مِنَ المحدِّثين وأهل السنَّة والجماعة»(٥)، وقال المُرْتضى الزَّبِيديُّ(٦): «إذا أُطلِقَ أهلُ السنَّة والجماعة فالمرادُ بهم: الأشاعرةُ والماتريدية»(٧)؛
بل يُضيفُ بعضُهم الصُّوفيةَ والإباضية والمناهجَ الدَّعْوية العقلانية
والحزبية، ويَزعم مشموليةَ الجميعِ بمذهبِ أهلِ السنَّة والجماعة بمعناه
الخاصِّ، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ ادِّعاءٌ باطلٌ كاسدٌ وقولٌ عاطلٌ فاسدٌ،
واصطلاحٌ يَمتنِعُ عليهم التسمِّي به باعتباره اسْمًا شرعيًّا استعمله
أئمَّةُ السلف؛ فكُلُّ مَنْ خالف اعتقادَ السلفِ الصالحِ ومذهبَهم في أيِّ
أصلٍ مِنَ الأصول، أو انحرف عن منهجهم لا يجوز تسميتُه به فضلًا عن أَنْ
يجوز له التسمِّي به، بل يُذَمُّ ويُعابُ عليه استعمالُه وانتحالُه.
وليس
المرادُ ـ مِنْ هذه الكلمة ـ الدخولَ في مُناقشةِ عقيدةِ مذهب الأشاعرة
والماتريدية والصُّوفية والإباضية والاتِّجاهات العقلانية الحديثة،
وانحرافِهم عن منهج السلف الصالح، وإنَّما أرَدْتُ أَنْ أُذكِّر
ـ بإيجازٍ ـ بالإسلام الذي يُمثِّله أهلُ السنَّةِ أتباعُ السلف مهما
اختلفَتْ أسماؤهم التي يُعْرَفون بها(٨)،
وأَنْ أبيِّن أنَّ مذهبهم لا يتَّسِع لأهل الأهواء والافتراق والبِدَع على
مختلفِ مَشارِبِهم مهما كَثُرَتْ وعَظُمَتْ؛ ذلك لأنَّ أهل السُّنَّة
إنَّما يُوحِّدهم الإيمانُ والتوحيد، ويجمعهم اتِّباعُ الهُدَى والهديِ
النبويِّ وَفْقَ منهجٍ ربَّانيٍّ قائمٍ على الكتاب والسنَّة، باعتبارهما
مَصدرَيِ الحقِّ اللَّذَيْن يَنْهَلون منهما عقائدَهم وتصوُّراتِهم
وعباداتِهم ومعاملاتِهم وسلوكَهم وأخلاقَهم، ويستنبطون منهما الأحكامَ
الشرعية في مسائل العبادات والمعاملات امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ [الأعراف: ٣]، ويَردُّون إليهما نِزاعَهم واختلافهم باعتبارهما مِشْعَلَ النورِ والهداية، ومِقْياسَ الحقِّ والصواب؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿فَإِن
تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن
كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ
وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩﴾ [النساء]،
ويسترشدون بفهمِ سلفِ الأمَّة لنصوص الكتاب والسنَّة مِنَ الصحابة
والتابعين ومَنِ الْتزَمَ بنهجهم واقتفى أثَرَهم؛ يَستخدِمون ألفاظَ نُصوصِ
الكتاب والسنَّةِ وألفاظَ السلف عند بيان العقيدة خاصَّةً، مُبعِدِين
المُصطلَحاتِ المُوهِمةَ غيرَ الشرعية، «ينفون عن كتاب الله تحريفَ
الغالين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهلين»(٩)،
ويوظِّفون ـ أيضًا ـ الأدلَّةَ العقلية والأقيسة المُستنبَطةَ مِنْ نصوص
الكتاب والسنَّة، اللَّذَيْن يتَّخِذونهما ميزانًا للقَبول والرفض،
ويُقدِّمون النقلَ على العقل مع نفيهم للتعارض بينهما، «يَدْعون مَنْ ضلَّ
إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحْيُون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون
بنورِ الله أهلَ العمى»(١٠)،
وتربطهم الأُخوَّةُ الإيمانية في الله، القائمةُ على مبدإ الوَلاء
والبراء؛ فالهُدى ـ إذن ـ هو فيما بَعَث اللهُ به رسولَه صلَّى الله عليه
وسلَّم، ومَنْ أَعرضَ عنه لم يكن مُهتدِيًا، ومَنْ قدَّم العقلَ عليه فقَدْ
ضلَّ سواءَ السبيل.
وقَدْ ذكَرْتُ ـ في مقالاتٍ
سابقةٍ ـ أنَّ الإسلامَ الذي يُمثِّله أهلُ السُّنَّة والجماعة ـ أتباعُ
السلف الصالح ـ إنَّما هو الإسلام المصفَّى مِنْ رواسب العقائد الجاهلية
القديمة، والمبرَّأُ مِنَ الآراء الخاطئة المُخالِفةِ للكتاب والسُّنَّة،
والمجرَّدُ مِنْ مَوروثاتِ مَناهجِ الفِرَق الضَّالَّة كالشيعة الروافض
والمُرجِئةِ والخوارجِ والصُّوفيةِ والجهميةِ والمعتزلةِ والأشاعرة،
والخالي مِنَ المناهج الدَّعْوية المُنحرِفة كالتبليغ والإخوان وغيرِهما
مِنَ الحركات التنظيمية الدَّعْوية أو الحركات الثورية الجهادية ـ زعموا ـ
كالدواعش والقاعدة، أو مناهجِ الاتِّجاهات العقلانية والفكرية الحديثة،
المُنتسِبين إلى الإسلام.
فمذهبُ أهلِ السنَّة
ـ أتباعِ السلف ـ هو الوحيد الذي يَصْدُق عليه الإسلامُ في صفائه وتجريدِه
وخُلُوِّه مِنْ رواسب الضلال ومناهجِ الانحراف؛ ذلك لأنَّه لا يَدخله
الاختلافُ في وحدةِ أصوله العَقَدية والمعارفية، ولا النزاعُ في وحدةِ مبادئه ومُنطَلَقاتِه العامَّة، ولا الشِّقَاقُ في مَنهجه الدَّعْويِّ وخصائصِه المتميِّزة، سواءٌ مِنْ حيث الشمولُ والتوسُّطُ ما بين إفراط المناهج الأخرى وتفريطِها، والاعتدالُ بين الغُلُوِّ والتقصير؛ أو مِنْ حيث خُلُوُّ العقيدة والمنهج مِنَ التناقض والاضطراب الذي تنهجه الفِرَقُ الأُخرى في العلم والعمل؛ أو مِنْ حيث محاربتُه للحوادث والبِدَع المُحدَثة في الدِّين وتحذيرُه منها ومِنْ أصحابها، أو مِنْ حيث
نَبذُه للتعصُّب المذهبيِّ والجمودِ الفكريِّ بغلقِ باب الاجتهاد على
المؤهَّلين، أو بتمييعِه وتعميمه بجعله مفتوحًا ولو على غيرِ المؤهَّلين له
أو فيما لا مجالَ للاجتهاد فيه، أو مِنْ حيث ثباتُ أهلِ الحقِّ
عليه وعدمُ اختلافهم في شيءٍ مِنْ أصولِ دِينهم، وإِنِ اختلفوا في فُروع
الشريعة بناءً على ما أدَّى إليه اجتهادُهم في مسائل الفقه، فلم يكن
خلافُهم فيها وليدَ الهوى والشهوة ولا طمعًا في مصلحةٍ ـ أدبيَّةً كانَتْ
أو مادِّيَّةً ـ ولم يكن عن زيغٍ ولا انحرافٍ، ولا كان رَميةً مِنْ غيرِ
رامٍ، وإنما كان لأسبابٍ اجتهاديةٍ، يُعذَرُ بمثلها المخطئُ ويُؤْجَرُ
أجرًا واحدًا، ويُحْمَد المُصيبُ ويُؤْجَرُ أجرين ـ رحمةً مِنَ الله
وفضلًا ـ كما جاء في الحديث(١١).
لذلك
لا يحوي مذهبُ أهلِ السنَّة ـ في ذاته ولا في نطاقه وطيَّاتِه ـ مظاهِرَ
الابتداعِ ولا صُوَرَ الانحلال والتمييع لدِينِ الله الحنيف:
ـ
فلا يَقبل ـ في حِيَاضه ـ طاعنًا في ذات الله المقدَّسة وأسمائه
وصِفَاتِه، ولا محرِّفًا ولا مُؤوِّلًا ولا مُعطِّلًا ولا مُشبِّهًا، ولا
مُشكِّكًا في الثوابت والمقدَّسات الإسلامية، ولا مُبدِّلًا لدِين الله ولا
مغيِّرًا لشرعه في العلم والعمل.
ـ ولا يَقبل ناقدًا للقُرآن الكريم أو قادحًا في صلاحِيَتِه للتطبيق بدعوَى عدمِ استجابتِه لمقاييس الحداثة.
ـ
ولا مستهينًا بالسنَّة المطهَّرة، مُعتبِرًا إيَّاها مِنَ التُّرَاث
المطمور الذي لا يَصلح للتطبيق لِفُقدانها لمعايير الحضارة، ولا مَنْ كان
حربًا على أهلها.
ـ ولا مُكتفِيًا بالقُرآن وَحْدَه مصدرًا للتشريع والتَّلَقِّي دون السنَّة النبوية.
ـ
كما لا يحوي مذهبُ أهلِ السنَّة ـ في نطاقه أيضًا ـ المستهينَ بجيلِ
الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابِعِيهم رحمهم الله، ولا مَنْ سبَّ
السلفَ ـ أهلَ الحديث والسنَّة ـ أو لَمَزهم أو تَنقَّص طريقتَهم أو عرَّض
بهم، أو فضَّل مناهجَ غيرِهم على منهجهم، ولم يتَّخِذِ الصحابةَ رضي الله
عنهم المَثَلَ الأعلى والمَقصِدَ الأسمى في معرفة الرِّسالة ونزولِ الوحي
وأحوالِ النبوَّة وفهمِ الدِّين علمًا وعملًا.
ـ ولا يَقبل غاليًا في تقديس الأشخاص أو قائلًا بعصمتهم أو مُدَّعِيًا اطِّلاعَهم على الغيب.
ـ ولا يقبل عابدًا مُتبرِّكًا بالأشياء والجمادات والآثارِ والأحجار والأضرحة والقبور، ولا مُبتدِعًا في العبادات والأعياد والموالد.
ـ ولا يقبل المُنحازَ المُوالِيَ للكُفَّار وأهلِ الأهواء في عاداتهم وتقاليدهم وأنماطِ حياتهم ونُظُمِ حُكمهم.
ـ
ولا المُنساقَ وراءَ تيَّار التغريب والتقريب بين الأديان، والعملِ على
إلغاء الفوارق العَقَدية، أو إلغاءِ عقيدة الولاء والبراء، أو إفسادِ
الدِّين والأخلاق والمرأة بدعوى حقوق الإنسان وحقوقِ المرأة ونحوِ ذلك.
ـ
ولا الخارجَ على الأئمَّةِ المُكفِّرَ لهم، التاركَ لمناصحتهم والصبرِ على
ظُلْمهم وجَوْرهم، ولا الثائرَ عليهم بالمظاهرات والاعتصامات والإضرابات
باسْمِ التصحيح والتغيير وَفْقَ ما تمليه الحُرِّيَّاتُ الديمقراطيةُ
ـ زعموا ـ وما ترسمه مخطَّطاتُ أعداء المِلَّة والدِّين.
ـ
كما لا يحوي مذهبُ أهلِ السنَّة ـ في نطاقه ـ مَنْ يرفع شعارًا أو رايةً
أو دعوةً غيرَ الإسلام والسنَّة بالانتماء إليها أو التعصُّب لها
كالعلمانية والاشتراكية والليبرالية الرأسمالية، والقَبَلية والوطنية
والقومية، والديمقراطية والحزبية، والحداثة وغيرِها.
ـ
كما لا يضمُّ ـ في حياضه ـ المُنتسِبين لمذهبِ أهل السنَّة ممَّنْ
تَسَمَّوْا بالسلفية ـ زورًا ومَيْنًا ـ وهُم على غيرِ أصولها ومَعالِمِها
ومنهجِها ودعوتها، ممَّنْ أحدثوا فيها ما ليس منها بدوافعَ تنظيميةٍ حركيةٍ
جهاديةٍ ـ زعموا ـ أو حزبيةٍ أو وطنيةٍ.
ـ ولا يحوي ـ أيضًا ـ سائرَ الاتِّجاهات والطرائقِ المذهبية والفكرية المُنحرِفة، سواءٌ كان يمثِّلها أفرادٌ أو فِرَقٌ أو تنظيماتٌ.
ـ
ولا مُخادِعًا باسْمِ الدِّين والدعوة، يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا، أو
مميِّعًا للثوابت الدِّينية والمقدَّسات الشرعية وما هو معلومٌ مِنَ
الدِّين بالضرورة، بالفتاوى المنحرفة والمواقف المُخذِّلة لسببٍ أو لآخَرَ،
طمعًا في مصلحةٍ شخصيةٍ أو مَنْصِبٍ أو عَرَضٍ مِنَ الدنيا زائلٍ.
ـ
ولا مُتعاطِفًا مع مَنْ سَبَق مِنْ هؤلاء جميعًا، يقول ـ في نفسه ـ مِثلَ
ما يقولون على الله غيرَ الحقِّ، ناصرًا لهم ومدافِعًا عنهم، ومُتحمِّسًا
ـ مُعلَنًا كان موقفُه أو خفيًّا ـ وراضيًا بعقائدهم وأفكارهم ودعوتهم،
مُخالِفًا لأهل السنَّة الغرباء خاذلًا لهم.
إنَّ
نطاقَ مذهبِ أهلِ السنَّة لا يتَّسِع لهؤلاء جميعًا؛ ذلك لأنَّ منهجَ أهلِ
السنَّة ـ أتباعِ السلف ـ مُستمَدٌّ مِنْ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ
مِنْ بين يدَيْه ولا مِنْ خلفه، ومِنْ سنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه
وسلَّم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي يَسلك فيه أهلُه سبيلَ الاتِّباع
والاقتداء والاهتداء بهما، وبما عليه سلفُ الأمَّة فهمًا وعلمًا وإدراكًا
وعملًا؛ في حينِ تَستمِدُّ المذاهبُ الأخرى أساليبَها ومناهجَها مِنْ عقول
البشر وتأويلِهم وتحريفهم وتخليطهم، مع عقدِهم ألويةَ البِدَع، وإطلاقهم
عُقُلَ الفِتَن؛ يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علمٍ، وهُم
مُجْمِعون على مفارقة الكتاب، ومختلفون فيه؛ يخدعون سُفَهاءَ الناس
ويراوغون جُهَّالهم بما يشبِّهون عليهم، ويكتمون الحقَّ ويَلبِسونه بالباطل
ـ وهم يعلمون ـ ويموِّهون حقائقَ الأمور، ويتلاعبون بالثوابت والمقدَّسات،
وغيرِ ذلك ممَّا لا يرتضيهِ اللهُ لعباده المؤمنين؛ فشتَّان بين منهجَيِ
الفريقين ومَشرَبَيْهما!! فمنهجُ أهلِ السنَّة هو ـ بحقٍّ ووضوحٍ ـ منهجُ
الإسلام نفسِه في مُسايرته للفطرة السليمةِ والعقلِ القويم، بعيدًا عن
تراكمات الفكر الفلسفيِّ، والتأويلِ الكلاميِّ، والشطحِ الصُّوفيِّ،
والانحراف الحزبيِّ، والانحيازِ التغريبيِّ، والإعراض العلمانيِّ
المتنكِّرِ للتُّرَاث الإسلاميِّ والحضاريِّ؛ فهؤلاء يخلعون الحقَّ
ويجعلونه تحت أقدامهم، ويُديرون للتوحيد والسنَّةِ ظهورَهم، ويستبدلون الذي
هو أدنى بالذي هو خيرٌ؛ فهذا دأبُ مَنْ عُطِّلَتْ عقولُهم وعُمِّيَتْ
أبصارُهم وغُشِّيَتْ بصائرُهم عن نور الهدى ووهجِ الفطرة، لم يعتصموا بحبل
الله المَتين، ولم يهتدوا إلى صراط الله المستقيم، بسببِ أوهام العقل
وأغاليطِ الحسِّ وتغليبِ الهوى على الشرع.
هذا،
وإذا كان ـ في زمن ظهور التشيُّع وانقسامِ الناس إلى سنَّةٍ وشيعةٍ ـ قد
تُسُومِحَ بانتسابِ بعضِ أهل الكلام والبِدَع للسنَّة مِنْ جهةِ إثباتهم
خلافةَ الخلفاء الثلاثة وتعظيمِهم للصحابة رضي الله عنهم، في مُقابِلِ
الشيعة المستهينين بهم وبمَقامهم والمُنكِرين لخلافة الخلفاء الثلاثة،
إلَّا أنه ـ بعد ظهور الفِرَق وكثرتِها وتشعُّبِها واقتباسِ بعضها مِنْ
ضلالاتِ بعضٍ ـ فقَدْ صارَتْ كُلُّ الفِرَق قسيمةً لأهل السنَّة قسمةَ
تَضَادٍّ، فيَمتنِعُ عليهم ـ جزمًا ـ الاعتزاءُ إليهم؛ لاستهانتهم بمنهج
الصحابة رضي الله عنهم ومخالفتِهم لهم ـ وإِنْ زعموا تعظيمَهم
واتِّباعَهم ـ.
وعليه، فلا يُنْسَبُ إلى مذهب السنَّة ـ حقًّا وصدقًا ـ إلَّا القائمون به الغُرَباءُ مِنْ أهلِه، وهم «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم»(١٢)،
قال ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ: «وإنما ذلَّ المؤمنُ ـ آخِرَ الزمان ـ
لغُربتِه بين أهل الفساد مِنْ أهل الشُّبُهات والشهوات؛ فكُلُّهم يكرهه
ويؤذيه؛ لمخالفةِ طريقته لطريقتهم، ومقصودِه لمقصودهم، ومباينتِه لِمَا هم
عليه»(١٣).
فمَنْ
صدَّ عن مذهبِهم وأَعرضَ عن منهجهم، وزَعَم أنَّه يَسَعُ أهلَ الكلام
والأهواءِ والافتراقِ الانتسابُ إلى مذهبِ أهل السنَّة؛ فهو ـ كما قِيلَ ـ
«أَضلُّ مِنْ حمارِ أهله»، يتقلَّب في غفلةٍ عن الهدى، ويتخبَّط في ظُلُمات
الجهل والضلال، ﴿وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣؛ النور: ٤٦].
وفي
زماننا هذا، رُفِع شعارُ السنَّة ـ بمفهومه العامِّ ـ على أنه بالمفهوم
الخاصِّ، مموَّهًا بأباطيلِ التصوُّف والكلام والاعتزال؛ لترويج المناهج
المُنحرِفة والمذاهبِ الباطلة، والعملِ على تثبيتها وتكريسها، وتمييعِ
العقيدة السلفية، وشلِّ الدفاع عنها والتصدِّي لمَنْ يخالفها، والتنفيرِ
مِنْ دُعَاتها ورُوَّادها، وتشويهِ صورة أئمَّتها، والعملِ على إبطالِ مبدإ
الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر؛ كُلُّ ذلك باسْمِ حُرِّيَّة الاعتقاد
والتفكيرِ والتجديد والمعاصرة.
كما رُفِعَتْ
شعاراتُ التجميع والتلفيق بين منهجِ أهل السنَّة ـ أتباعِ السلف ـ وبين
مناهجِ أهل الأهواء والافتراق بأسماءٍ مُختلِفةٍ تُوهِم الغافلَ بالرغبة في
الخير وعزَّةِ الإسلام؛ فتارةً تأتي باسْمِ: جمع الكلمة، ووحدةِ الصفِّ،
ولمِّ الشمل، تحت ظِلِّ مبدإ الوطنية، وتارةً أخرى باسْمِ الدعوة ورأبِ
الصدع، وتحقيقِ التآلف والأخوَّة، وتكثيرِ الجموع، بإلغاء الفوارق
العَقَدية والمنهجية وتركِ الإنكار لها؛ وقد غاب عنهم أنَّ الاعتصام بحبل
الله وتجسيدَ الأخوة الإيمانية لا يتحقَّق إلَّا بالحقِّ والسنَّة، وأنَّ
الأمَّة المهديَّة معصومةٌ لا تجتمع على ضلالةٍ ولا على باطلٍ.
وهذه
الأباطيل المروَّجُ لها اليومَ ـ وإِنْ كانت لها صولةٌ وجولةٌ ـ إلَّا
أنَّ أصحابها مُفلِسون أمواتٌ غيرُ أحياءٍ بمَعاصِيهم وبِدَعِهم
وخُرَافاتِهم، لا يعرفون المعروفَ ولا يُنكِرون المنكر، يعيشون عيشةَ
نَكَدٍ في المعاصي، تَرْهَقُهم ذلَّةٌ وكآبةٌ؛ فلا يُذْكَرون ـ بعد
وفاتهم ـ إلَّا بالذمِّ والخزي واللوم والتحذير منهم، وقد صَدَق قولُ
الشاعر:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ
|
إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
| |
إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيبًا
|
كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ(١٤)
|
وختامًا،
نسأل اللهَ أَنْ يُصلِح أمرَ آخِرِ هذه الأمَّةِ كما أَصلحَ أمرَ
أوَّلِها، وأَنْ يَهَبَ لنا مِنْ لَدُنْه رحمةً وعلمًا ورشدًا، وأَنْ
يرزقنا الإخلاصَ في السرِّ والعلن، ويُعيذَنا مِنَ الفِتَن في القول
والعمل، ما ظَهَر منها وما بَطَن؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
«اللَّهُمَّ
رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ
فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(١٥).
والعلم
عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله
على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم
تسليمًا.
(١) «منهاج السنَّة» لابن تيمية (٢/ ١٣٢).
(٢) انظر: المصدرَ السابق.
(٣) هو عبد الرحمن بنُ أحمد بنِ عبد الغفَّار الإِيجيُّ الشيرازيُّ القاضي الشافعيُّ الأشعريُّ الملقَّب ﺑ «عضد الدِّين»،
كان إمامًا في المعقول، قائمًا بالأصول والمعاني والعربية، مُشارِكًا في
الفنون. أشهرُ كُتُبه: «شرح مختصر ابن الحاجب» في أصول الفقه، و«المواقف»
في علم الكلام، و«الفوائد الغياثية» في المعاني والبيان وغيرها. تُوُفِّيَ
مسجونًا سنة: (٧٥٦ﻫ).
انظر ترجمته في:
«طبقات الشافعية» للسبكي (٦/ ١٠٨)، «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (٣/
٢٧)، «الدُّرَر الكامنة» لابن حجر (٢/ ٣٢٢)، «بُغْية الوُعَاة» للسيوطي
(٢٩٦)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٦/ ١٧٤)، «البدر الطالع» للشوكاني (١/
٣٢٦)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٢/ ٧٦).
(٤) أخرجه
الترمذيُّ في «الإيمان» بابُ ما جاء في افتراقِ هذه الأمَّة (٢٦٤١) مِنْ
حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. وحسَّنه الألبانيُّ في
«صحيح الجامع» (٥٣٤٣).
(٥) «المواقف» للإيجي (٣/ ٧١٧).
(٦) هو أبو الفيض محمَّد بنُ محمَّد بنِ عبد الرزَّاق الحُسَيْنيُّ الزَّبِيديُّ الملقَّبُ ﺑ: «مرتضى»،
كان لغويًّا أديبًا محدِّثًا أصوليًّا مؤرِّخًا، أصلُه مِنْ واسط في
العراق، ومولدُه بالهند في ١١٤٥ﻫ، ومنشؤه في زَبِيدٍ باليمن، له مصنَّفاتٌ
كثيرةٌ في عدَّةِ علومٍ، منها: «تاج العروس في شرح القاموس»، و«إتحاف
السادة المُتَّقين في شرح إحياء علوم الدِّين»، و«بُلْغة الأريب في
مُصطلَحِ آثار الحبيب»، وغيرها، تُوُفِّيَ بالطاعون بمِصرَ في شعبان سنة:
(١٢٠٥ﻫ).
انظر ترجمته في:
«الأعلام» للزركلي (٧/ ٧٠)، «هديَّة العارفين» للبغدادي (٢/ ٣٤٧)، «فهرس
الفهارس» للكتَّاني (١/ ٣٥٣، ٥٢٦)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٣/ ٦٨١).
(٧) «إتحاف السادة المُتَّقِين» للمرتضى الزبيدي (٢/ ٦).
(٨) مِثْل
هذه التسميات: أهل السنَّة، أهل الحديث، أهل الأثر، أتباع السلف، الغرباء،
الفِرْقة الناجية، الطائفة المنصورة، وغيرها؛ ولا يخرج عن أهل السنَّة
مَنِ انتسب إليها مِنَ المذاهب المعروفة كالأئمَّة الفحول وأتباعِهم ممَّنْ
سار على منهج السلف، فلا تضرُّ هذه التسمياتُ المُختلِفة لأهل السنَّة
والجماعة، فضلًا عن التي يطعن فيهم بها أهلُ الأهواء والبِدَع، مثل لمزِهم
بالحشوية والناصبة والتيمية والوهَّابية والباديسية والجامية والمدخلية
وغيرها، ما دامَتْ تدلُّ على مسمًّى واحدٍ بمبادئه وأصوله وقواعدِه ودعوته
ومسلكه، وإِنْ تفرَّقَتْ بلدانُهم واختلفَتْ أزمانُهم وتباينَتْ تسمياتُهم.
(٩) «الرد على الجهمية والزنادقة» للإمام أحمد (٥٥ ـ ٥٧).
(١٠) المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسهما.
(١١) عن عمرو بنِ العاص رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»: مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» بابُ أجرِ الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (٧٣٥٢)، ومسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٦).
(١٢) أخرجه
أحمد في «مسنده» (٦٦٥٠)، والطبراني في «المعجم الكبير» (١٣/ ٣٦٣)، مِنْ
حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في
«صحيح الترغيب» (٣١٨٨) و«صحيح الجامع» (٣٩٢١).
(١٣) «كشف الكربة» لابن رجب (١١).
(١٤) البيت لعديِّ بنِ الرعلاء الغسَّاني، انظر: «خزانة الأدب» للبغدادي (٩/ ٥٨٣).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق